القائمة الرئيسية

الصفحات

الحي الخلفي.. النزعة العبثية في رواية المغربي محمد زفزاف

حفصة اسرايدي


بعد رواية "محاولة عيش"، أبدع شاعر الرواية المغربية محمد زفزاف رائعته "الحي الخلفي" التي صدرت سنة 2007، وتعتبر واحدة من أعماله الروائية الخالدة التي أثرى بها الساحة الثقافية، كونه يعد من أبرز مقومات الأدب العربي بشكل عام والمغربي بالخصوص.


من بين ما يلفت النظر في روايات محمد زفزاف، هو استجلاء نفسية الشخصيات التي تنتمي إلى الشرائح الاجتماعية المستضعفة، وتجسيد المشهد السوسيو-اجتماعي والثقافي المغربي بمعضلاته، فقد استطاع الكشف عما تستضمره العوالم الداخلية من تموجات واضطرابات نفسية من جهة، وتسليط الضوء على عنصر المكان من جهة أخرى، وتبرز الواقعية الزفزافية ممزوجة بنزعة عبثية، وبعد قراءتي لرواية "الحي الخلفي" وجدتها مادة خام لإبراز هذه النزعة وتجسيدا أدبيا للواقع الاجتماعي والنفسي. 


بدءًا بعنوان الرواية نجد أنه نقيض للحي الأمامي، كأنها إشارة قبلية على أن العوالم ستتفاعل في فضاء تملؤه التناقضات والمفارقات، الشيء الذي يبرز أهمية عنصر المكان في الرواية، والتي تدور أحداثها حول ثلاث فئات : الفئة الفقيرة التي تتمثل في ساكنة الحي الخلفي، تحديدا في شخصيتي "المعلم" و "الطاهر"، إلى جانب خديجة وحليمة وهن ممتهنات للجنس المأجور، "المعلم" تم طرده من عمله وخانته زوجته ثم غادرت بصحبة طفلهما بعد أن تزوجت من يهودي، و"الطاهر" تقتصر حياته على الأكل والقمار والشرب حتى الثمالة كسائر سكان الحي، ثم الفئة الغنية التي تمتلك السلطة وتظهر في شخصيات مختلفة، مثل القائد بسيارته الفخمة وسائقه الذي ينفذ دائما ما يملى عليه، المقدم الذي يبرع في الإخلال بالنظام العام بالإضافة الى الاعوان الذين يعملون تحت سلطة القائد، وفي الأخير تأتي الفئة المثقفة وهم الصحفيون الذين يكتبون عن الحي و ينقلون معاناة سكانه، غير أنهم لم يسلموا من سطوة طابع التناقض الذي يسود الرواية حين يتنكرون للمبادئ تحت ضغط الإغراءات المادية.


يقوم كل عمل روائي على عنصرين أساسيين، الزمان والمكان، فلا يمكن تصور نص سردي منفلت عن فضاء يؤطره، والمكان الروائي يرتبط بالصورة والعمق الدلالي، ومما لا شك فيه أن عنصر المكان هو أهم مكون تثبته هذه الرواية، والملحوظ أن لفظة (حفرة) تكررت اثنا عشر مرة، أي أنها ظاهرة مكانية مهيمنة ومكون فضاء متميز يحضر بكل أبعاده المجردة والفيزيقية.


 لو تأملنا ما جاء في ص21: "أحيانا عندما يخسر أحدهم يكسر أحد الأعواد ثم ينزل إلى الحفرة كأنما يدفن نفسه". وفي ص27: "وقف منتفضا مثل تيس جريح وألقى بنفسه في الحفرة لأنه خسر كل فلوسه". نجد أنها تشير إلى الموت بمعناه المجازي، أي أنها واقع مغلق ومجال تعسفي يسود فيه القهر والفقر والبؤس، وفي ص69: "الذين يعتقدون أنهم يخفونها (بالزبايل) في حفر لا تراها الأعين ولا تدركها الأبصار". صارت رمزا للتستر على الفضائح والممارسات اللاأخلاقية. وفي مستوى ثاني تكتسي الحفرة معناها التقريري كتعبير عن واقع البنية التحتية للبناء العشوائي، كما جاء في ص11 "كانت أزقة مليئة بالحفر وغير مبلطة". وهذا يحيلنا للقول أن زفزاف قد ركز على تحقيق التفاعل بين المكان والحالة النفسية للشخصيات من خلال ربط فضاء واقعي مغلق بعلاقات إنسانية ضيقة.

 ‏

أما على مستوى النسق الزمني فقد اعتمد على مناورة سردية تراجعية، فلو تأملنا ما جاء في الصفحة 89: " فالأمور تسير كلها على ما يرام في هذا الحي لكن الأمور تسير على ما يرام مثلما تسير مياه بركة آسنة "، نجد كما لو أننا نقرأ من الصفحات الأولى للرواية مما يوهمنا بأن حركية السرد ستنطلق من جديد، الشيء الذي يجعل الإطار الزمني للرواية مقفولا على نفسه كما هو الحال بالنسبة لعنصر المكان.


على مستوى البعد الاجتماعي، نجد أن شخصيات الرواية تعيش واقعا مزريا، يرصد الكاتب من خلاله أماكن عيشهم المتمثلة في مجموعات من أكواخ الصفيح بمدينة الدار البيضاء، كما يصور مشهد البطالة حيث لا عمل لسكان الحي، فقط يكتفون بالتجمع للعب الورق وضامة أو القمار من أجل توفير ثمن الخمر، الشيء الذي يفسر السلوك المنحرف للشخصيات (الطاهر والمعلم) ولجوئهم للسهر في الحانات رفقة النساء اللواتي يمتهن الدعارة (خديجة وحليمة)، مما يعطينا صورة للمرأة المهمشة والمستغلة جنسيا كما جاء على لسان السارد: "«ثم أخذت حليمة وخديجة تتحدثان بينهما حديثا لم يكن يهم المعلم ولا الطاهر، ومهما تكن العداوة بين امرأتين في الحانة أو في بيوت اللذة، فإنهما قد تتفقن ولو لحظة»، وبسبب هذا الواقع تنتشر المخدرات والحشيش بين شباب الحي وشخصية الهراوي كانت نموذجا للشباب الضائع الذي لم يحقق شيئا والمضطهد تحت سلطة القايد وأعوانه، فالهراوي لم يحقق أي شيء لنفسه وما تزال والدته تحمل له المؤونة والسجائر إلى السجن كلما وقع في حملة تطهير، مثلما تفعل باقي الأمهات والأخوات...» ويببن الكاتب هنا أن مصير الشبان هو السجن ومراكز الشرطة حيث يعتبر السجن أكثر رحمة من المراكز التي يتعرض فيها الشباب إلى كل أصناف الألم و التعذيب، ويقول: «لا بأس! فالسجن أهون من الإقامة في مركز الشرطة، ففي السجن هناك، على الأقل حشيش وأكل وأحيانا علب سجائر أمريكية، يحصل عليها السجين بالدفع». 


وقد كان محمد زفزاف حريصا على تغييب هوية الشخصيات وتغييب ذواتها، من خلال تشبيههم بالحشرات في عبارته: «ولدوا في البادية بدون هوية وبدون علم من الدولة فهم يفعلون نفس الشيء في الضواحي أو في أماكن أخرى مثلما يفعل الذباب والصراصير والزنابير»، وبين أيضا أن هويتهم المزيفة تظهر فقط في فترة الانتخابات خوفا من عقاب السلطة، فيراهم «بدون هوية دائما إلا وقت الانتخابات إذ يخرجون كالجرذان ليقولوا نعم وبعد ذلك يعودون إلى جحورهم المظلمة»، هنا تتشكل لدينا صورة الطبقة الفقيرة المسحوقة اجتماعيا وسياسيا. يشير السارد أيضا إلى الطبقة المثقفة المتمثلة في الصحفيين الذين ينقلون واقع الحي في مقالاتهم ويبرز الصراع بين المثقف والسلطة في قوله: «القايد يعرف جيدا أن أي مراسل متجول ما هو إلا معلم أو أستاذ في مكان ما من أنحاء المملكة ينتمي إلى هذا الحزب أو ذاك»، لكن المثقف أيضا لم يسلم من النزعة العبثية للرواية، فهو يتنازل عن مبادئه خوفا من السلطة أو تحت ضغط الاغراءات المادية.


كشف محمد زفزاف من خلال روايته صورة المرأة خلال فترة زمنية معينة، وذلك من خلال توظيف مصطلحات تحط من قيمتها على لسان الشخصيات مثل: "سيري بحالك الحمارة سيري بحالك الخانزة" و "لماذا ترينا فلوسك اذهب وأنفقها في أي مكان مع نعجتك، إن الفلوس تحضر وتغيب" و "إنهم يلدون مثل الفئران". هنا أبرز السارد الأيديولوجية الذكورية التي تجرد المرأة من الوظائف التي يمكن أن تضطلع بها إلى جانب الرجل لتنمية المجتمع، فباستحضار هذه المقومات لا حاجة لها إلا لإشباع اللذة الجنسية، أو تفريخ الأطفال. وما عدا ذلك.


معظم الحوارات الداخلية في الرواية كانت تدعو الى التأقلم مع الوضع السائد لاستمرار عجلة الحياة الاجتماعية. فأي اختيار حر أو انحراف عن المألوف يؤدي للخروج من الجماعة، مما يؤكد على أن الاختيار نقمة كما جاء على لسان شخصية "القايد": "أقول في نفسي أنه لم يحسن الاختيار...إن الكلمة مسؤولية وقد تخرب شعبا وتؤدي به إلى ما نراه اليوم في أنحاء العالم.. إن أولئك الناس الذين يهربون ما هم إلا مجرد مساكين ولكي تعيش لابد أن تفعل أي شيء".


بعد القراءة المضمونية لرواية "الحي الخلفي" يمكن استخلاص أن التصوير الزفزافي للواقع يتسم بسلطة العبثية، فيؤكد على أن الواقع ثابت لا يمكن تغييره ولا أمل لمستقبل مختلف، كونه يقود جل الشخصيات الرئيسية الى الهاوية ويصر على عدم فتح مجال لتوقع نهاية سعيدة أو أي انحراف عن السيرورة الزفزافية للأحداث، هنا أستحضر روايات الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي الذي أجد أن تصويره للواقع والشخصيات و تركيزه على نبش الدواخل الخفية لها وربطها بالمحيط شبيه بأسلوب زفزاف إلى حد ما، لاسيما وأن كلاهما يركزان على تجسيد المشهد الاجتماعي بكل معضلاته.





author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات