القائمة الرئيسية

الصفحات

حصريا.. ننشر قصة من "بعد ما يناموا العيال" لـ عمر طاهر

 


أنثى السُّكَّر


كانت تتأمله وهو يقف بالفانلة الحمَّالات يجهز العشاء، تلك الزيارة العزيزة للمطبخ الضيق تمنحها طمأنينة تتجدَّد كلما حَنَّ صلاح إلى أكل العزوبية المطهي بحرفة مشوهة تمتلئ بثقة كاذبة، ومكسبات طعم كثيفة تعوض غيابًا ما. 


وقفت سلوى تلملم الستارة التي تنام فوقها حبات خوخ ضخمة ملونة، والتي استغنوا بها عن باب المطبخ الذي كانت تحتل انفراجته مساحة خصصتها هي لدرفة الخزين. كان العرق ينحدر عبر مسارات العروق في رقبة صلاح وهو يقطع خلطة السجق. وأحست هي بصهد الزيت الذي يستعد للغليان فوق البوتاجاز. 


رفعت بإصبعيها طرف ديكولتيه جلابية البيت لتمرر بعض النسيم إلى صدرها. لمحها صلاح فألقى إليها بحلقة خيار التقطتها وأجَّلت وضعها في فمها. 


ـ عندي اعتراف. 


منحها صلاح كامل اهتمامه دون أن ينطق. 


قالت: 

ـ عندما أخبروني أن العريس مدرِّس لغة عربية تحجَّر ريقي بعض الشيء، تخيلتني في رفقة مدرس عربي من العينة التي تظهر في المسلسلات؛ شخص جاد، نصف متجهم، مشغول بالفصاحة انشغاله بكرامته الشخصية، وهو في الغالب شخص تجاوز الأربعين، يرتدي نظارة طبية، ومشاهده العاطفية هدفها الأول هو الضحك. 


ـ وماذا وجدتِ؟ 


سألها صلاح وقد توقف عن تقطيع الخضراوات. كان ينتظر إجابة صادقة، يسألها دائمًا عن مشاعرها، فتقول له: «أنت تعرف كل شيء». اعترف لها ذات مرَّة: «ما أعرفه شيك بمليون جنيه، وما تقولينه هو توقيعكِ عليه، كلمة واحدة منكِ تحرِّر هذه الثروة». 


ـ وماذا وجدتِ؟ كررها، وكان الزيت قد بدأ في الطقطقة. 


قالت: شوف اللي على النار الأول. 


رجعت إلى غرفتها، خلعت الجلابية التي تشرَّبت بالعرق وبخار الزيت، وارتدت شورتًا وفانلة زُينت حمَّالتاها بدانتيل خفيف. في بداية الزواج كان يحيرها ما الذي يمكن أن ترتديه داخل حدود البيت، ويثير استحسان صلاح. جرَّبت كل شيء، أطقم اللانجيري التي اشترتها مع شقيقتها من قصر النيل، بعد مرَّة أو اثنتين شعرت أن خلاعة هذه القطع مفتعلة وتؤلم كرامتها لسبب لا تفهمه، كما أنها تحوِّل صلاح إلى شخص آخر متردد بين غض البصر أو كشف المزيد. جرَّبت الترننج البُني القطيفة، رغبة منها في التباسط. صحيح أنه كان السبب في قضاء ليلة ضحكا فيها من القلب بعد أن عرض عليها صورة له في مراهقته يرتدي ترننج مشابهًا أحضره له خاله من الدوحة، لكنها لم تكررها. جلابية البيت تفتح الباب لشعور مبكِّر بالأخوة لا تتمناه. والكاش مايوه يُشعرها بقلة قيمة ماسخة وهي ترتديه بين جدران الشقة. كانت تهرب من كل هذا الإرهاق إلى ما يُشعرها فقط بالراحة، قطع عشوائية لكنها تمنحها ثقة بالنفس. ثم لاحظت بالصدفة أن صلاح يُبدي الغرام وينطق بالغزل فقط عندما تكون هي على راحتها، تحضر الأنثى في عينيه عندما تكون مرتدية ما يُشعرها بالخفة أيًّا كانت الألوان والتراكيب.



تسللت إلى المطبخ، وسحبت بعض الأطباق والأكواب ولتر الكولا، ورصت المائدة، ثم سحبت صينية وأعدت طقم الشاي ليصبح جاهزًا عقب العشاء. شغلت التلفزيون، وتنقلت بين القنوات، حتى توقفت عند فيلم قديم يجلس فيه البطل والبطلة في ليلة ممطرة خلف إحدى النوافذ يتناولان الطعام على ضوء الشموع، تمنَّت لو أن الأجواء شتوية، ثم تذكرت ألَّا شموع لديها في البيت. كان صوت القلية يتصاعد، بينما تجهز مساند الجلسة الأرضية أمام الفيلم. غسلت الطفاية ووضعتها مع علبة سجائر صلاح والولاعة فوق منضدة قصيرة ستكون إلى يسار جلسته، بما يسمح لها أن تجلس هي في متناول يمينه بدون تشويش. أشعلت نار الولاعة وأطفأتها بنفخة مرحة. 



في أول ليلة لها في هذه الشقة كانت تغرق في الخجل والنشوة والعرق، تخبِّئ وجهها أسفل كتف صلاح العارية في الفراش. كان يدخن والولاعة في يده يسلي نفسه بإشعالها وإطفائها. أخرجت وجهها لتعترض على هذه الضجة، في لحظةٍ كان فيها لهب الولاعة يضيء وجه صلاح بدرجة جعلتها تقع في غرامه إلى الأبد. خرج صلاح من المطبخ بالطبق الأول ووضعه في منتصف المائدة. تمنَّت لو كانت هناك كانزاية بيرة. شاركته واحدة في أسبوع العسل الذي قضياه في شرم الشيخ، لم تُحب طعمها، لكن تغيَّرت نظرتها إلى الموضوع عندما قبَّلها صلاح بفم تفوح منه رائحة الـ8% كحول، كانت قُبلة للذكرى. لن تنسى يوم كانت في مطبخ أمها تشاركها الخبيز في حنة شقيقتها، وشمت الرائحة نفسها تتصاعد من كتلة الخميرة، فوضعت قطعة منها في فمها واستعادت القُبلة مغمضة العينين، بينما الزغاريد تنهمر من كل اتجاه. مرت بوجهها في مرآة صغيرة معلَّقة في طرقة الشقة، ووقفت تتأمل نفسها. «ماذا لو راحت الجاذبية؟»، افترضت الأسوأ، هي لا تخاف من أن يخونها، هو أرق من ذلك، لكنها تخاف من أن يهرس الوقت الحب ويحوِّله إلى عِشرة طيبة ابنة التعوُّد والعيش والملح، تخاف أن تفقد اللقب الذي منحه لها، «أنثى السُّكَّر». 


تتذكَّر خالها عندما سمعته وهو يحكي أمام شلة رجال العائلة ساخرًا، عن سنوات الزواج التي جعلته بعد أن كان يعيش مع فتاة أحلامه أصبح يعيش مع واحد صاحبه بس بيعرف يحشي فلفل وبتنجان. تخاف أن يضيع منها تحت وطأة الأيام الكنزُ الذي عثرت عليه في هذه الشقة الضيقة، تخاف أن تنشغل عن صلاح بالأولاد والمدارس ومصروف البيت، حتى تأتي لحظة تسمع فيها من جديد شكوى شقيقها الأكبر: «كنتُ قبل الزواج شخصًا وحيدًا، وأصبحت بعد الزواج شخصًا وحيدًا يتحمَّل مسؤولية آخرين!». سمعت ضجيجًا قادمًا من المطبخ، عندما دخلت كان دخان التحمير يملأ المكان، وكانت الأواني كلها فوق الأرض، انهارت رصتها في درفة دولاب المواعين السفلية، قال لها: 


ـ كنتُ أفتش عن طبق للمخلل. 


لم تكن تطيق المخلل، حتى قال أمامها: «بيفتح النِّفس». انشق قلبها نصفين لشخص يستجدي سعادة ما من كل هذا الملح. كان جالسًا على رُكبتيه يُعيد رص المواعين في مكانها، جلست إلى جواره تساعده، لمحت عينيه تتسللان إلى صدرها الذي حررته وهو يرتج أسفل الحمَّالتين، اصطنعت انشغالها بإصلاح الفوضى، فخرج ليرص بقية الأطباق. عندما رجع إلى المطبخ أخرج من كيس أسود أرغفة الخبز الفينو، ثم أخرج من الكيس نفسه ثلاث كانزات بيرة، لمحته وهو يرصها خلسة في الثلاجة، أدرك أنها ضبطته فابتسم خجلًا ثم خرج، وقف أمام التلفزيون يتنقل بين المحطات حتى توقَّف عند واحدة تذيع أغنية قديمة، رفع الصوت قليلًا، ثم ناداها: 


- يلَّا. 


في طريقها إلى المائدة تحمل طبق المخلل، رأته يتذوق صنع يديه ويهز رأسه استحسانًا، ابتسمت تشجعه وهي تفكر في أن هذا الرجل لا يستحق أبدًا أن يشعر يومًا ما بالوحدة.


** قصة "أنثى السكر"، من المجموعة القصصية "بعد ما يناموا العيال"، أحدث أعمال الكاتب عمر طاهر، الصادرة عن دار الكرمة للنشر والتوزيع

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات