سماح حسن
أشد ما نتوق إليه في لحظات الألم العثور على قصة ملهمة لتكون انطلاقة لنا من جديد وكأن هناك حديثا افتراضيا يدور بيننا وبين الشخصيات نتوحد معهم نشعر أننا نشبههم وهم يشبهوننا. تلك الحكايات تجعلنا نعانق الأمل من جديد فتغدو الصعوبات وقتها مجاهيل جديدة نسعى لاكتشافها عوضا عن كونها علامات توقف تعيق مسيرتنا.
وفي رواية "سيرة عين" يقدم الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله، حكاية عن الشغف ليس الشغف وحده إنما تجدها رواية عن الابداع ومحاولة التميز وإيجاد موطئ قدم في عالم يحكمه الرجال.
يخبرها والدها أنها إذا ما أرادت شيئا فإن عليها أن تكون أكثر جرأة لكي تنال ذاك الشيء، في خضم الأحداث ونحن نتابع سيرة "كريمة عبود" يتجلى لنا الواقع السياسي وقتها حيث الانتداب البريطاني والسعي الحثيث للسيطرة على تلك البقعة المكانية المقدسة وانتزاعها وتجريدها من تاريخها وحضارتها واستبدال كل تلك الأشياء بواقع مغاير لا يمت للحقيقة بصلة.
يخطو بنا الكاتب فنقترب من حياة المصورة الفلسطينية "كريمة عبود"حيث الدعم منذ الطفولة لإذكاء الشغف الذي اتقد في نفس كريمة منذ نعومة أظفارها.
يلحظ الأب (القس سعيد) ذلك الشغف فيباركه بلمسة أبوية حانية ويحضر لها الكاميرا، ذاك الشيء السحري الذي سوف يساعدها على رؤية العالم والإمساك بتلابيب أحلامها وتشكيلها كيفما تشاء، لتبدأ كريمة في اكتشاف ذاك العالم السحري عبر عدسة الكاميرا فتصول هنا وتجول هناك مؤكدة علي تفردها وتميزها، رافضة أن تكون مثل غيرها من المصورين تريد أن تشبه ذاتها لا تشبه أحدا، هي لا تسعي فقط لالتقاط الصور هنا وهناك وإنما هي توثق للحياة عبر عدسة الكاميرا تنتقل بحرية مصطحبة معها عدستها توثق الواقع الفلسطيني بكل جماله، ترصد تطور شكل الحياة تنقله لنا لكي نكون شاهدين علي ذاك التراث الإنساني الهائل فنحتمي بهذا التراث ويكون بمثابة الدرع الذي نحتمي به ونواجه به العدو الغاشم الذي يهدف لاقتلاع وخنق الواقع والتاريخ الفلسطيني من جذوره.
سيرة أول مصورة فوتوغرافية فلسطينية
أن تقرر امرأة الولوج إلى عالم يحكمه الرجال لهو تحد صعب وربما مستحيل خاصة فيما يخص التوقيت الزمني فنحن نتحدث هنا عن أوائل القرن العشرين لا عن الواقع المعاصر وما يشهده من سعي حثيث لانتزاع المرأة لحقوقها والسعي الحثيث لإثبات وتعزيز مكانتها في واقع شديد الصعوبة ويعج بالتحديات.
لم يكن ذاك هو التحدي فحسب ولكن تزامن توهج موهبة كريمة عبود مع الانتداب البريطاني، أي أننا نتحدث هنا عن احتلال يحاول طمس وإخفاء كافة مظاهر الحياة وتحجيم وتحديد حرية الأفراد وإمكانية انتقالهم من مكان لأخر، ولكن اكتسبت كريمة ميزة نسبية وهي كونها امرأة أتاح لها ذلك الولوج والدخول للمنازل بحرية ففي تلك الفترة لم تكن لتظهر صورة المرأة في جوازات السفر.
تمكنت كريمة من تصوير البيت الفلسطيني من الداخل لم تلتقط عدستها الملامح البشرية فحسب ولكن تلك العدسة أطلعتنا على التراث الفلسطيني من خلال الملابس التي كانت ترتديها النساء في ذاك العصر.
أيضا لم تكتفي كريمة بتوثيق الحياة من داخل البيت الفلسطيني فحسب، كانت تلتقط صورا لتجسيد الطبيعة والمواقع الأثرية والدينية أي أنها قامت بخلق أرشيف يتمكن لاحقا من الحفاظ على التاريخ والتراث، فالتاريخ هنا ليس مجرد أحداث أو بعض التواريخ الهامة ولكنه تاريخا وتأريخا بصريا لمرحلة مفصلية من ذاكرة فلسطين فعبر ذاك التاريخ البصري تتمكن كريمة من إنعاش الذاكرة واثبات الهوية باستخدام عدسة الكاميرا.
الشغف هو كلمة السر
لم تكن تلك الصور الملتقطة مجرد صور تذكارية فحسب، فبالعودة لتلك الفترة التي عايشتها كريمة عبود سوف نجد الكثير ممن امتهنوا تلك المهنة ولكنها بالنسبة لكريمة كانت أكثر من مهنة أو حرفة تقتات وتعيش منها فحسب، فالتصوير بالنسبة لكريمة كان شغفا حقيقيا بزغ نجمه منذ نعومة أظفارها والجميل في الأمر أن هذا الشغف لم يقابل بعنف أو رفض وانما قوبل ببيئة حاضنة ساهمت في تعزيزه ووفرت كافة الإمكانات التي من شأنها اذكاء تلك الموهبة المتميزة للغاية.
حينما تحل الصورة محل البندقية
لم يكن النضال يوما ما مقتصرا على الكفاح العسكري المسلح وإن كان النضال العسكري هو أكثر أشكال النضال والكفاح شجاعة حيث المواجهة المباشرة مع العدو بون أستار أو عوائق.
للنضال أوجه عديدة وبخاصة حينما نتحدث عن العدو الصهيوني الغاشم الذي مهد لوجوده بكل ذكاء وحكمة عبر خلق واقع افتراضي ثم ترديد الكثير والكثير من الأكاذيب والادعاءات التي من شانها تأكيد الواقع المزيف.
ذاك العدو لم يكن يخشى المواجهة المسلحة فحسب فالكلمة هي نضال من نوع اخر والصورة هي أيضا عنصر تهديد يعلق في الذاكرة وتتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، فمن خلال الصورة نستدل على شكل الحياة وطبائع الافراد ومن خلال البحث والتدقيق نستطيع أن نتخيل كافة التفاصيل التي ربما شملتها تلك الصور وربما لا.
ومما لا شك فيه أن الصورة بهذا المفهوم سوف تساهم في زعزعة تلك الكيانات المتهاوية التي ليس لها أساسا حضاريا/تاريخيا تستند عليه، فقد ساهمت ابداعات كريمة عبود في حماية الذاكرة الوطنية الفلسطينية فقد كانت تصور المدن وهي ممتلئة بالأشخاص بينما حاول العدو الصهيوني الترويج لفكرة المدن الخالية وبما أنها خالية من السكان اذا ليس هناك حرجا من إمكانية استيطانها وبناء واقع كاذب علي ارضها، فليس غريبا ما قامت به سلطة الاحتلال حينما قامت بتدمير الاستوديو الخاص بكريمة عبود عام 1948 ربما اعتقدت سلطة الاحتلال بذلك أنها تمحو الحقيقة تلك هي عقلية المحتل الغاشم، لم يتفتق ذهن العدو الغاصب أن تلك الصور سوف تنتقل الي أجيال متلاحقة يتداولون الصور فيما بينهم وذاك من شأنه اثبات الهوية اكثر واكثر والاعتزاز بالماضي بما يحويه من أشكال للنضال ساهمت فى الدفاع عن الأرض والهوية ولا يزال النضال مستمرا حتي الآن.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب