القائمة الرئيسية

الصفحات

حصريا.. قصة "موت حلو المذاق" بصوت أحمد القرملاوي

 

قصة "موت حلو المذاق" بصوت الكاتب أحمد القرملاوي


تنشر مدونة "مكتبة وهبان" حصريا قصة بعنوان "موت حلو المذاق" بصوت الكاتب أحمد القرملاوي، والتي نشرت مؤخرا بمجموعته القصصية "قميص لتغليف الهدايا"، الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية.


ولتحقيق أقصى استفادة ومتعة للقارئ نرفق النص مكتوبا للاطلاع عليه خلال الاستماع إلى قراءة "القرملاوي" بصوته لقصتيه عبر المقطعين التاليين


 الجزء الأول

الجزء الثاني



تربَّع بجوار باب المطبخ، في ردهة الشقة المغطّاة بالأحذية والنِّعال المفرطَحة، حيث جلبة الطبيخ تُشَوشِر على التلاوة الرتيبة، ورائحةُ الطعام تُفعِم الأنف وتُكركِب البطن. أخذ يفرك بأنامله سطحَ السجادة القديمة العطِنة، فتتناثر حبّات الرمل من فروتها؛ الكثير من الرمل، حملتهُ الأحذية والنعال طوال ساعاتٍ مضَت. هذا يوم كئيب، أكأب يومٍ يمرُّ عليه.


كان مُحبَطًا بشدة، يراه الغرباء العابرون لداخل الشقة، يلحظون عليه سيماء الحزن، فيمسحون رأسه ويُغمغمون بكلمات.. ويظل يشعر بإحباطٍ شديد، بعدما تفقَّد جميع ساعات الحائط الموجودة في البيت، عدة مرات، يفصل بين المرة والتي تليها نحو عشر دقائق.. كانت ماما تُصِرُّ أن عليه الانتظار نصف ساعة أخرى؛ وكان يصبر حتى عشر دقائق، ثم يأخذ جولةً يطوف خلالها على الساعات المعلَّقة، بأبطأ ما يستطيع، إذ ربما تتعطَّف إحداها عليه، فتُمرِّر الوقت أسرع من باقي الساعات.. لكنَّ النتيجة ظلَّت مخيِّبة، كأن ثمة مؤامرةً قد حيكَت ضدَّه اليوم.


بدأ آخر جولاته بساعة غرفة بابا وماما؛ كانت لا تزال بطيئةً فوق الاحتمال، لدرجة الشك في سلامة بطاريتها. أما ساعة المطبخ الرقمية فكانت لا تمنح الأمل قط، فلا تُشير بتاتًا لمرور الثواني كسائر الساعات؛ تعجَّب كيف لم يلحظ هذا الأمر من قبل، ولم يستطع البقاء أمامها حتى تتبدَّل الأرقام، معلنةً مرور دقيقة واحدة إضافية، كما كانت رائحة الطبيخ تُثير دموعه وتُهيِّج مشاعره. لذلك تسلَّل خارجًا من المطبخ وتوجَّه مباشرةً إلى الصالة المكدَّسة بالغرباء، حيث ساعة الحائط القديمة ذات البندول المستمر في المرجَحة منذ الأزل، كانت ثابتةً على موقفها كما الجولة السابقة؛ بندول يتطوَّح، وعقارب لا تدور، كأنما ماتت هي الأخرى.


لن يستطيع الصبر أطول من ذلك.. هكذا حدَّث نفسه، فبهذا الإيقاع الشديد البطء لن تمرَّ الثلاثون دقيقة أبدًا، مهما تحمَّل. ستظل الساعات تُعذِّبه، وصوت التلاوة المرتَّلة يصنع ذات الحالة الرتيبة، التي لا تعطي أملًا في أي جديد. كما أن مواعيد ماما ليسَت دقيقةً على أي حال، قد تتأخر عشر دقائق إضافية بعد الثلاثين، أحيانًا ربع ساعة! لماذا تفرض عليه أن ينتظر من الأساس؟ لماذا لا تضع له الطعام في غرفته؟ لماذا اليوم بالتحديد؟! لو كان بابا هنا لكان قد منحَه تصبيرةَ قبل الغداء كما كان يفعل دائمًا، على غفلةٍ من ماما، حتى لا يتضوَّر جوعًا ريثما تُحضِّر هي الطعام، وكان في الغالب سيُشاركه فيها، فقد كان مثلَه يُحب الطعامَ ولا يصبر طويلًا على الجوع.


كانت ماما تُبدي امتعاضَها دائمًا من "الرمرَمة" عمّال على بطّال فيما بين الوجبات، كانت تؤنِّب بابا على هذا التسيُّب الزائد؛ سيسمن الولد، سيصير المزحة المفضلة لزملائه في المدرسة، لن يستطيع مجاراة الأولاد في اللعب والجري، سينهج من طلوع السلم، لن يجد مَن تُعجَب به وتمنحه الثقة.. كل هذا كانت تقوله في غرفة بابا وماما، حين ينفردا بعد الغداء، تُبدي أحيانًا بعض التلميحات أمامه وعلى مسمعٍ منه، وكان أكثر ما يخشاه أن يتأثَّر بابا بكلامها أو يميل لمهاودتها، فيتركه يجوع قبل الغداء والعشاء، أو يتوقَّف عن مُطالبتها بأن ترأفَ قليلًا بحال الصبي وتخِفَّ عليه في تمارين النادي، فالولدُ لن يكون بطلًا رياضيًّا مهما حاولَت؛ هذه ليست موهبته.. كان يقول لها ذلك، وكانت تردُّ عليه بسخطٍ شديد، لكنها رغم ذلك لم تكن تمنعه هكذا عن الأكل مثلما تفعل اليوم.. ماذا جرى لها؟!


تسلَّل ثانيةً لداخل المطبخ، حيث الروائح الشهية المؤلمة. نظر مُعاتبًا للساعة الرقمية ذات السطح المطوَّس بالأبخرة، والأرقام البليدة. قال في خاطرِه: تحركي أسرع قليلًا، أرجوكِ! وسحَب كرسيًّا وجلس إلى طاولة المطبخ، حيث امرأة البواب تُساعد ماما وتُعِدُّ وعاء السلطة الخضراء. كانت رائحة محشي الكرنب تُفعِم الهواء؛ أخذ يشتَمُّها، يتنفَّسها، كاد يقضمها.. لاحَظ أن جدَّته تحدجه بنظرةٍ زاجِرة؛ لم يفعل شيئًا يستحق اللوم، هو يجلس فحسب، ويتنفَّس الهواء الشهيّ.. "إنها ماما!"، قال لنفسه باندهاش شديد، كيف تصوَّرها جدَّته لأول وهلة! لقد كبُرت ماما كثيرًا منذ الأمس، هذا الجلباب الأسود الكئيب، والطرحة السوداء الخفيفة المبتلة بالعرق، الملتصقة بجبينها ورقبتها، يجعلانها تُشبه الجدَّة بالضبط، كما أن عينَيها المنتفختَين منذ الأمس، ودموعها التي تذرفها بصمتٍ طوال الوقت، تُشيعان في وجهها كآبةَ الجدّات.


همسَت إليه أمُّه باقتضاب: "اصبر قليلًا.. لا تفضحنا"، ودفعَته بهدوءٍ لخارج المطبخ. ما الذي يجعله يفضحها بجلوسه إلى طاولة المطبخ! أين تُريده أن يجلس إذًا؟ الضيوف الريفيون يملأون البيت، يفترشون الأرض في كل مكان، يحتلّون كل المقاعد والكنبات.. أقارب أبيه، هكذا تقول ماما، حضروا صباح اليوم من بلدتهم البعيدة، بأيديهم الخشنة ذات الجلد السميك، ورائحتهم النفّاذة، لكي يُعزّوها في وفاة بابا، وعليها إطعامُهم قبل الجلوس للعزاء بعد صلاة المغرب. لا مكان له اليوم في البيت، وهذا القرآن المرتَّل الذي لا يعرف له مصدرًا، يتردَّد عاليًا من جدران البيت، يُراقبه من جميع الزاويا، يتتبَّع خطواته، أفعاله، يتربَّص لوقوعه في أي خطأ قد يتسبَّب في فضيحة.


عاد لغرفة بابا وماما، نظر بيأسٍ لساعة الحائط، وجلس بجوار خزانة الملابس ذات الدرفة المواربة، التي تفوح من داخلها رائحةُ خليطٍ من عطور بابا؛ كان أبوه يُحمِّم نفسه بزخّات العطر، ثم يمرِّر إصبعه المبلَّل بالعطر أسفل أنفه الصغير، فتفوح منه رائحةُ أبيه، ويمتلئ بالزهو.


نهض وأغلق الدرفة المواربة، وارتقى سريرَ أبيه ورقد في مكانه، ضغط بطنَه بمخدته الطريَّة، دفس جوعه في سريره الواسع، تحت لحافه القطني الثقيل.. هنا مات بابا ليلة أمس، هذه رائحتُه، مزيجُ عرَقه وعطره، في حفرة المرتَبة هذه ظل نائمًا حتى الصباح، تُرى أين نقلوه؟ لحفرة أخرى بالطبع، طلب من ماما أن يذهب بصحبة عمِّه ليشهد الدفن، نهرَته وقالت: "مافيش مرواح"، من الجيد أنها نهرَته، كان يُداري خوفه لكي يبدو أكبر من المخاوف، أبدى امتعاضًا مُصطنعًا وحبس نفسه في غرفته، والتَهم آخر مخزونه من البسكويت المملَّح. ظل يتخيَّل كيف أوصلوا بابا عند ربنا نهاية الأمر؟ تقول الجارة طنط وداد إن السمنة قتلته، كثيرًا ما كانت ماما تُحذِّره، لم يكن يكترث لكلامها، بل واستمرَّ يُخبِّئ اللذائذ أسفل المخدة وتحت السرير، ويعرض عليه سرًّا أن يتناولها معه، دائمًا في التوقيت الصائب تمامًا، حين تكون ماما منشغلةً بإعداد الطعام، ويكون الجوع قد قلَّص بطنَه لأقصى درجة، ولم يعُد يتحمَّل قرصة الجوع ولو لدقيقة أخرى..


رقد على جانبه، ودفس يده الغضَّة تحت مخدة بابا المفعَمة برائحته، كأنما يتأهَّب للنوم. لامسَت يده لفافةً صلبة، ملساء، تُخشخِش بصوت السيلوفان ومَلمسه.. إنها أصابع الفوليَّة المحبَّبة لبابا! هل كانت هي من قتلَته ليلةَ أمس؟! الجوع يقرص الآن بقسوةٍ غير مسبوقة، يعتصر المعدة الخاوية، وملمس الفوليَّة الصلب يعِدُ بملء الفراغ المؤلم، مذاقها الحلو يفوح من رائحتها المسكَّرة.. هل تقتله هو كذلك؟ ربما حين يكبُر ويصير في عمر أبيه، وسِمنته، لكنه الآن جائع، جائع جدًّا، ويشتهي الفوليَّة، أكثر من أي شيء آخر.


قشَّر الغلاف الشفاف، أخرج الفوليَّة وأخذ يتأمَّل لَمعتَها المغوِية، قضم قضمة كبيرة، آلَمَت أسنانَه، لكنه أتبعها بقضمة أخرى أصغر حجمًا قبل أن يبتلِع الأولى. صار فمه محشوًّا بكمٍّ موجِعٍ من الفوليَّة اللذيذة، شرعَت عيناه تدمع من لذة الألم، حتى إنه كاد يُنهنه بصوتٍ مسموع، لا يعرف إن كان سيبكي من وجَع فكَّيه، أو بسبب وحدته المؤلمة.. لكنه أغمض عينَيه كابتًا بكاءه، وراح يمضغ بسرعة، حتى كادَت قطع الفوليَّة أن تُسقِط أسنانه اللبنيَّة القليلة التي لا تزال صامدة.


أخذ صراخ الجوع يخفُت ويخفُت كلما ابتلع قضمات الفوليَّة، لاك آخرَ قطعة باقية، ازدردها بسرعة، فتراخَت قبضةُ الجوع بدرجة كبيرة، وشعَرَ هنالك بكآبةٍ شديدة لفراق بابا.


للتواصل مع الكاتب من "هنا" أو من خلال التعليقات

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب