رتبت أمي موعدا ثانيا لمقابلة العريس الذي أحضرته طنط ثريا بصحبة والدته، تركنا لهم اختيار المكان والزمان وسرني اختيارهم لهذا الفندق الفخم، جلسنا وحدنا على منضدة تبعد عنهم قليلا ، استدار وجه أمي مبتسما معلنا عن رضاها، لم تلفت نظري وسامة محمود عندما رأيته بمنزلنا أول مرة، فقد وترتني نظرات أخته الفضولية التي تفحصتني من شعر رأسي حتى أصابع قدمي، انجذبت الى هدوئه وحديثه الشيق، تحدثنا في كل شئ وتركت نفسي على سجيتي معه ، استطاع احتوائي بعد أن طاردني الخوف من الفشل، لم يبدِ اعتراضا على عملي بعد الزواج، كما وافق على اقامتنا في الشقة التي أهداها لي أبي وسجلها باسمي.
مغمضة العينين، تملأ وجهي رغوة الصابون، شعرت بدبيب يدها على جسدي تفركه بليفة مخصصة لهذا الحمام المغربي ، لتجعل من يومي هذا يوما تاريخيا عظيما ، لم أدقق في ملامح السيدة التي تتولى أمري جيدا فقد بدت الرؤية صعبة للوهلة الأولى من هجوم البخار والسخونة ، بدأت تخرط الماء عن شعري بمشط خشبي وتنثر المياه بعيدا عني ، حاولت الانتهاء من هذا كله بسرعة فلا طاقة بي لاحتمال البخار فهو يعيق تنفسي ويخنقني ، رحت أنشف شعرى وأحيط جسدي بالمنشفة استعدادا للتوجه الى مصفف الشعر وارتداء فستان العرس ، ابتسمت لنفسي في المرآة ومصفف الشعر يضع لي اللمسات الأخير ة، وموسيقى تعزف أنغاما حالمة تأتي من بعيد.
أقمنا العرس في نفس الفندق الذي تقابلنا فيه أول مرة أنا ومحمود ، قلبي يدق إذ اقتربت لحظة خروجي حيث ينتظر الجميع في شوق وفضول ، تعدل لي أمي من وضع إكليل الياسمين والبنفسج الذي يتعلق بيدي ، نسير أنا ومحمود على صوت الدفوف الى مكان الاحتفال ، يتابعني أبي كظلي وقد تباطأ في السير وهو ينظر لي نظرات فارغة وحبات من الدمع معلقة في جفنيه ، كانت سعادته منقوصة ، بدا حزين الوجه ومنكسر القلب ، يشعر بالخزي والعار لما فعلته هبة ، بعد أن سأل عنها جميع المدعوين من الأهل والأقارب والأصدقاء وعرفوا بما حدث.
رجوت أبي قبل الزفاف ألا نخبر أحدا بحقيقة ما قامت به هبة ، فلا داعي أن يعرفوا أنها هربت من البيت لتتزوج رجلا لم نقابله أبدا ، لا عيب أن نتجمل وألا نريق ماء وجهنا ، لا ضير أن نخبرهم أنها تزوجت بموافقتنا لنفسح لها مكانا للتوبة والعودة بيننا عندما تسنح الظروف ، لكن أبي رفض تماما ، أبت كرامته وكبريائه أن يخضع لتوسلاتنا أنا وأمي ، فما قامت به هبه اعتبره جرما عظيما يجب معاقبتها عليه أمام الجميع لتكون عبرة لكل شباب العائلة، لم يكتف بإخبارهم بكل شئ فقط بل أضاف أنه تبرأ منها ولن يسمح لها بالعودة الى منزلنا بعد الآن ، ورغم حدته في الحديث إلا أن صوته كان يتهدج بالبكاء في كل مرة يقول فيها:
ـ لا ابنتي ولا أعرفها
رافقني أبي وأمي إلى مطار القاهرة لألحق بالطائرة المغادرة الى لندن ، فقد سبقني محمود في مأمورية عمل تتبع وزارة الخارجية الى لندن بعد مرور عام على زواجنا ، أرسل لي لأقيم معه فترة البعثة التي تستغرق أربع سنوات ، ضمتني أمي ثم أبعدتني عنها وهي تطمئنني بنبرة حانية:
محمود إنسان طيب ومجتهد، أنتِ محظوظة به، قلت لها:
لكن الشغل صعب في لندن يا أمي لن أجد عمل وتعرفين أنني لست معتادة على الجلوس بالبيت ، الشغل هو حياتي ، عادت تضمني مرة أخرى قائلة بذات النبرة الحانية:
ستكونين بخير، وضعك هناك معه أفضل عمل لكِ ، ثقي بي ، ثم أنتِ لم تقدمي استقالتك من عملك هنا ، فقط قدمتِ أجازة لمرافقة الزوج ، أي أن مكانك هنا لن يضيع ، وأربعة سنوات فترة بسيطة ستمر بسرعة ، المهم وطدي علاقتك بزوجك ، امتلأت عيني بالدموع وأنا أقول لها: لكن هذه أول مرة أفارقك أنتِ وبابا ، قالت لي: استمتعي بوقتك واعتبريها أجازة طويلة أنتِ مسافرة الى لندن اعتبريها سياحة وليس عمل.
في الطائرة الى مطار هيثرو ذرفت دموعا كثيرة ، مر شريط ذكرياتي مع هبة ونحن صغار حتى لحظة هروبها من البيت كأنه عمرا طويلا ، أفتح الهاتف وأتفحص الصور التي تجمعنا على مدار السنوات ولا أجد مبررا لما قامت به سوي طيشها وجنونها وتمردها الدائم على حياتها ، ولا أتقبل أيضا قسوة أبي عليها ولا أصدق أن تصبح كبرياءه أعظم من حبه لها.
كان أبي حساسا وحنونا لكنه متحفظ وتقليدي الى أبعد الحدود ، كل يوم في حياتي معه ترك أثرا جميلا وخاصا في مخيلتي ، نجتمع كل جمعة بعد الافطار في وجود أمي وممدوح وهبة نقرأ "بريد الجمعة" للكاتب "عبد الوهاب مطاوع" ونتناقش في الحلول التي يطرحها للمشكلات ، كانت هبة تخالفنا الرأي دائما وبدون تفسير منطقي ، مجرد اعتراض وإثبات وجود ، فيرد عليها أبي بعصبية بالغة: انتِ مجنونة ؟ كيف تقولين ذلك ، كل شئ عندك مباح ؟ ما تقولينه ليس شجاعة ، إنها بجاحة ، فتعقد هبة حاجبيها بعصبية وتصمت.
رجة خفيفة أحسستها بنصف وعي بعد أن رحت في إغفاءة لا أدري كم مكثت فيها ، استقرت الطائرة على الأرض ووجدت محمود بانتظاري في مطار هيثرو الذي يضج بالمسافرين القادمين والمغادرين ، ضمني اليه وقبلني واصطحبني معه بالسيارة الى بيتنا الجديد ، مكان اقامتنا يبعد عشرون كيلو مترا عن وسط لندن حيث نقيم ، سحرتني أجواء شوارع لندن الصاخبة ، فالبيوت محاطة بالحدائق الرائعة والشرفات تزينها الزهور، الشقة مؤثثة على الطراز الانجليزي داخل كومباوند خاص بأعضاء السفارة ومعظم جيراننا من الأجانب.
بعد مرور شهرين تقريبا بدأ محمود يتغير قليلا ويعاملني ببعض السطوة والعصبية ، فطبيعة اقامتنا في شقتي بعمارة أبي لم تمنحه الفرصة لفرض قوانينه الخاصة ، حاول اثبات سيطرته بطريقة غبية ، قام بصفعي على وجهي من أجل خلاف بسيط لا أتذكر سببه من تفاهته ، ولأنني لم أعتد الخضوع ، فقد أدهشه رد فعلي ، اندفعت نحو المطبخ وأخرجت سكينا من الدرج وصحت به:
ـ ان اقتربت مني سأتصل بالشرطة والخارجية وأقول لهم إنك تشرب كتيرا ودائما مخمور وتتعدي علي بالضرب وآثار صوابعك على وجهي واضحة وتأكد صحة كلامي ، والنتيجة ستكون ترحيلك لمصر بفضيحة ، فلا تحاول اهانتي أو التعدى علي مرة تانية أبدا.
انتابتني الدهشة عندما تراجع للخلف خطوات ولم ينهرني بل التزم الصمت ، وبعد أن هدأت الأمور اعتذر لي ووعدني ألا يكررها مرة أخرى.
كشف لي هذا الموقف عن نقطة ضعفه ، صورته أمام المحيطين به تشغل حيزا هاما في أولوياته ، كما أنه حريصا على سمعته وسيرته الحسنة أمام زملائه في العمل أملا في الترقي ومداومة السفر في مأموريات أخرى خارج البلاد، بالإضافة أنه كان كتابا مقروءا بالنسبة لي ، أتوقع ردود أفعاله وأتنبأ بكل تصرفاته لكن رد فعله المتخاذل جعل صورته تهتز بعيني ، رأيته ضعيفا وربما لا يهمه سوى مصلحته الشخصية التي قد يتنازل من أجلها عن أي شئ ، مشهد خضوع أمي الدائم لأبي كان يستفزني وربما جرأني على قيامي بهذا التصرف ، وحد من مشاعري تجاهه ، ورغم أن طبائعنا تأقلمت الى حد ما وأنجبت خلال هذه الفترة سليم وخديجة فإنني كلما ضبطت نفسي أمنح محمود بعضا من الحنان دون سبب واضح ، أتراجع وأظهر له وجها آخر، وجل ما أدهشني هو احتماله لتناقضاتي واصراره على إظهار مشاعره الطيبة لي بوضوح.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب