القائمة الرئيسية

الصفحات

حصريا.. ننشر فصلا من رواية "خيوط ليلى" لـ شيرين فتحي




لم يهتك ستري بعد رشيدٍ سوى الحائط الذي كان يتلقف نظراتي الشاردةَ في صمت، بينما كنت ضائعةً ما بين الخيوط، تكرَّر الأمر أكثرَ من مرة، مهما اختلفت أنواعُ الخيوط ما بين الصوف أو القطن أو الحرير أو حتى خيوط الخيش الخشنة.


 أصبحتُ أستعيدُ ذاكرتي شيئا فشيئا أمام الحائط، وأحاولُ أن أسبر الماضي الذي ما زال رشيد ينسجُ خيوطَه حولي ويدسُّه في ذاكرتي المنهَكةِ. تُرى بما كنت تفكرُ وقتَها؟ وأي ذكريات كنتَ تود أن أذكرها وأنا التي لم تكنْ قد تكونتْ لي ذاكرةٌ بعد.


هل أنا أحبكَ يا رشيد؟ لا أعرف! لم أفكرْ في السؤال من قبلُ، أنا بالطبع أشعر نحوَك بعاطفةٍ ما ولكنها ليست عاطفةَ الحب الذي نعنيه، ليس ذاك الحبَّ الذي يدور ما بين رجلٍ وامرأة، أنا أنتمي إليك، هذا إحساسي بالضبط معكَ، حب الانتماء إلى الصانع الذي صنعني، حتى في أوجِّ قسوتك معي لا أملك أن أنفصلَ عنك، لا أملك أن أفرطَ في مشاعر انتمائي إليك، بتخليك عني تجعلني لا أحد، لا شيء، لا شيء مطلقا يا رشيد.


وماذا عن سامح؟ هل أحبه أيضا؟ ربما لم أحبّْ سامحًا بالمعنى الحرفيّ للحب، لم أعرفْ سببا حقيقيا لذلك، ربما كنت أدركُ أن علاقتي به مجردُ علاقةٍ ورقية، لا أعرف هل أقصدُ بالورقية أنها مجردُ علاقة اخترعها لنا المؤلف؟ أم أنها ورقيةٌ لأنني اختزلتها في تلك الورقة التي كتبناها وسجلها لنا المأذون لتجعلَ علاقتي به في إطارِ الشرع والمجتمع؟ لكني كنت أحبُّ أطفالي، ربما حبي لهم هو الحقيقة الواحدة التي كنت أعرفُها في تلك الحياة التي حملْتَني إليها يا رشيد. كنت إذا ما أُصِيب أحدهم بنوبةِ بردٍ أو سعال، وعجز عن إخراج البلغم أو المخاط العالق في زوره، أسعلُ أنا من دونَ قصدٍ في محاولة مني للمساعدة وكأنني سأقوم بإخراج هذا البلغم العنيد من حلقي أنا.


أتذكر يوم أنجبت إياد والذي وُلِد برئة غير مكتملة، احتجزوه في الحضانة قرابة الشهر، هل تتذكرُ كيف كانت حالتي وقتَها؟ هل تتذكر الآلامَ النفسية والجسدية التي كنت أعانيها بينما أفرغُ صدري من الحليب في اليوم الواحدِ أكثرَ من خمسِ مرات، أضغطُ ثدييّ بمنتهي القوة واحدا بعد الآخر، كنت أعصرهما فتنعصرُ روحي معهما، أراقب قطرات اللبن الأولى وهي تنحدرُ، كانت القطرات الأولى دوما بلا لونٍ كأنها دموع، كنت أرى الحلمتين الصغيرتين وهما تبكيان شوقا للطفلِ الذي لم أضمَّهُ إلى حضني.


شهرٌ كامل لم أره فيه إلا مرات قليلة، في المرة الأولى كان وجهُه مغطى بقناعٍ طبي لحماية رأسِه من الأشعة المسلَّطة عليه بعد ارتفاع نسبة الصفراء في دمه، بكيت يومَها بشدةٍ، شعرت للحظة أنه يرفض مجردَ لقاءٍ عابر فيما بيننا، لشهر كامل لم أتعرف إلى ملامحِه كاملةً إلا من خلال ذاك الحاجز الزجاجي السميك، في إحدى المرات لمحتُ بعض ملامحه، كان نائما كالملاك، كان (ماسك) جهاز التنفس الاصطناعي مُثبتا على أنفه ليساعد رئتيه اللتين كانتا أضعفَ من أن تقوما بعملهما بكفاءةٍ من دون مساعدة، كان هذا (الماسك) القاسي يخفي بقيةَ ملامحه، لم أكن أرافق سامحًا في كل زيارة، تهربت مراتٍ عديدة من زيارة الطفل.


في المحضن كنت أجلسُ غالبا على كنبةٍ مصنوعة من الجلد الأسود، كانت الكنبةَ الوحيدة الموجودة هناك، وجهي لمكتب الاستقبال، وظهري للحاجز الزجاجي الذي يفصلوننا به عن الأطفال، أندسُّ ما بين أمين أو ثلاثة، أتابعهن وهنَّ يدخلنَ بالدور إلى غرفة الإرضاع، واحدةٌ منهن على الأقل قد تكون محظوظةً فتحمل طفلها بنفسها لترضعه قبل أن ترجعه للمرضة، بينما الأخريات والأقل حظًّا يدخلن ليفرغن ما يثقل أثداءهن من الحليب في زجاجات معقَّمة لتأخذها إحدى الممرضات وتكتب عليها اسم الطفل واسم أمه.


في المحضن غالبا ما يُسمَّى الأطفال باسم أمهاتهن، وكأنهم يعلمون أنهن الأكثر عذابا في مثل تلك اللحظات، كنت أنظرُ للأمهات وأشعر بجرحٍ غائر في روحي وبنقصٍ شديد في ذاك الجزء المستدير والبارز بوضوح في صدري، أحاول أن أقف وألقيَ نظرةً أخرى على الوليد الذي لن يحاولوا إرضاعه قبل أن يتمكن من الاستغناء عن جهاز التنفس الاصطناعي، أسمع أباه وهو يتفاوض مع الممرضة أو الطبيب كي يسمحوا لي بالدخول، يحاول أن يقنعهم أن الطفل لم يشعر بأمه ولم يلمسها منذُ الولادة، ربما يساعده قربُه منها على المقاومة، يرفضُ الطبيب المسؤول ككل مرةٍ، ثم يخبرنا أنهم سيقومون الليلةَ بإجراء محاولةٍ أخرى لفصلِ الطفل عن جهاز التنفس مع مراقبةِ معدَّل تنفسه لتحديد مدى تقدم حالته.


أشعر لحظتَها بانفصالي المفاجيء عمن حولي، أتخيل الطفل بشفاهٍ زرقاءَ وصدرٍ مسطَّحٍ وثابت، أكاد أراه وهو عاجزٌ عن التنفس أو حتى الصراخ لتنبيه الموجودين، ألتفت بذعرٍ إلى الطبيب ولا أراه ولا أسمع حتى بقيةَ الحديث، أرى كلَّ المشاهد وهي تتحرك وتمر من أمامي كأنني لا أقعُ في داخلها، الممرضات والأمهات والأطباء، الجميع في حالة حركة، حتى هؤلاء الصغار ضعيفي القوى قد يحركون إصبعا أو يزمون زمةً بسيطة بالشفاه دون أن يُسمَعَ لهم صوتٌ، بينما أنا الوحيدة التي تقف ثابتةُ كمسمار مدقوقٍ من رأسه في الأرض، لا أشعر بأي شيءٍ حتى يأتي هو ويقتلعني بحركةٍ بسيطة من يده التي يسحبني بها إلى البيت حيث أضطرُّ هناك للتخلصِ من كل الحليب الذي كنت أحوشه منذ الليلة السابقة أملًا في الحصول على لحظةِ أمومةٍ حقيقية.


بعد فترةٍ بدأت ألاحظ أن رائحةَ الحليب صارت تداهمني في كلِّ مكان، في كل غرفةٍ أفرغت فيها ثديي, أو حتى في الغرف التي لم أطأها، في كل ركنٍ جلست فيه أو حتى لم أجلس، كنت أشم رائحته في كل الأكواب، على الرغم من تخصيصي لكوبٍ واحد كنت أملأه ثم أفرغُه بعدها في الحوض، كأن رائحةَ الحليب صارت موجودةً في داخلي أنا، في جسدي، في كفي، في أصابعي، في أنفي، وربما في روحي، بعد كل مرة كنت أسكب فيها كوب الحليب في عين الحوض، كنت أضع رأسي ما بين كفيَّ بينما أقرفص أسفلَ الحوض وأنا أنهنه، وأبكي حرفيًّا على اللبن المسكوب.


لهذا كله كنتُ أهرب من تلك الزيارات، كنت أخافُ أن أحب الطفلَ، أن أتعلق به ثم تخطفَه مني في لحظة. فقررتُ في أحد الأيام أن أفرغَ روحي من المحبةِ والمشاعر التي تتراكم داخلي كهذا الحليب الذي كان يعودُ ليتراكم في داخل صدري بعد كل مرةٍ كنت أظن أنني قد تخلصت من آخر نقطةٍ فيه.


ثدياي بدآ يتحجران بعدما قررت أن أتوقف عن إفراغهما، كنت يائسةً من عطفك عليَّ، لملمت ألبسةَ الطفل التي اشتريتها أثناء حملي، وتلك التي كنت قد حصلتُ عليها كهدايا ووضعتها جميعها في حقيبة سفرٍ صغيرة وأخفيتها بعيدًا عن ناظري، فككت سريرَه الذي كان لأخته من قبلِه وأعدته إلى مكانِه تحت سريري الكبير في غرفتنا أنا وسامح، حاولت أن أعيد كل شيءٍ إلى طبيعته، كنت أقول لنفسي كأنك لم تحملي ولم تنجبي، عدتُ لاهتمامي بالطفلة التي أهملتها، حذفتُ التسعة أشهرٍ الفائتة من ذاكرتي، أسقطت أوجاعي وجرح الولادة الذي لم يكن قد التأمَ بعد من حساباتي، تركت الحليب ليتراكم في ثديي رغبةً في أن ينتهي.


تحجر الحليب، وارتفعت درجةُ حرارتي، وامتلأ صدري بالخراريج، نقلني سامح إلى المستشفى، لعدةٍ أيام كنت أهذي، أفيق لأبكي ثم أعود لأحتمي بإغمائي من جديدٍ، لم أعد إلى الحياة إلا حين أخبرني سامح أن ممرضةَ المحضن طلبت منه أن يأتي بي لأرضعَ الولد.


آهٍ لو تعلم كيف كانت مشاعري حين ضممتُه إلى صدري لأول مرةٍ، حين شعرت أن الجزءَ البارز في صدري قد أصبحت له أهميتُه الآن، بالطبع كنت أحبُّ أطفالي، كنت أحمل لهم طوال الوقت مشاعرَ وأحاسيسَ حقيقيةً على الرغم من أنك قد تعتقدُ أنني لم أحمل بهم، ولم أنجبهم وأربهم إلا على الورق فقط.


شيءٌ سيء أن يخلقك أحدهم، ثم يعتقدَ أنه يعلم عنك أكثر مما تعلمه أنت عن نفسك، أن يقرر محاسبتَك على أفعالك في الأوقات التي يريدها هو، أن يطوعَ كل شيءٍ لخدمة السيناريو الخاصِّ به والذي رسمه هو ليصنعَ به حياتَك أنت، أن يحتفظَ ببعض مشاعرك ولا يمنحها لك إلا وقتما يقرر هو.


ما المشكلة لو كنت مجردَ امرأةٍ وزوجة عادية، ليست لها تلك المشاكل والأحاسيس المعقدةُ التي خلقتها لي يا رشيد؟ كانت أيامي مع سامح عاديةً ومملة إلا من الأيام التي يتعالى فيها صوته بالشجار، كنت أهتم وقتَها فقط بحمايةِ الصغار، الصغار الذين لأجلهم تركتُ عملي في نفس البنك الذي يعمل به سامح، لم أشعر بندمٍ على قراري هذا، ولكن كل هذ الفراغ كان يقتلني، يملأ حياتي بالعواصفِ التي تهب عليَّ فجأةً دونما أية مقدماتٍ أو أسباب واضحة، وبعد مرور كل عاصفة كنت أنزوي وحدي على كنبتي السماوية أنظر للجدار المقابل وأبكي.


كان الجدار طيبًا يربت على كتفي ويراضيني، تحوَّل هذا الركن بمرور الوقت إلى بيتي، صرت أقضي فيه طيلةَ النهار وجزءًا كبيرًا من الليل، انقطعت عن النوم إلى جوار سامح، تعللت بصوت شخيرِه العالي الذي يمنعني من النوم، وتعلمت أن أحتضنَ الجدار بعيني وأنام.



** رواية "خيوط ليلى" صادرة عن دار الهالة للنشر والتوزيع، للكاتبة الدكتورة شيرين فتحي


للتواصل مع الكاتبة من "هنا" أو من اترك انطباعك في التعليقات

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات