إسلام وهبان
دائما ما يتصدر الاستثنائيون المشهد.. في الصحف، أو على شاشات التلفزيون، وأيضا في تكالب الناس عليهم وانشغالهم بما يقولون أو يفعلون، تملؤ سيرتهم جلسات السمر والنميمة، وتشغل صورتهم حيزا من الذاكرة، في حين يظل هؤلاء “العاديون” دوما على الهامش، لا يكترث بتفاصيلهم أحد أو يلتفت لما يعتريهم من مشاعر أو آلام، يأتون في غفلة من الزمان ثم يمضون بلا أثر كأنهم نسيا منسيا.
في روايته الأولى “العزومة” والصادرة عن دار المصري للنشر والتوزيع، يحيي الكاتب الشاب طه سويدي، سيرة المنسيين، ويكشف جانبا آخر من حياتهم وتفاصيلهم “العادية” التي لا يلتفت إليها الكثيرون، ليرسم لوحة مفعمة بالألم ومعاني الانكسار والخيبة التي تنتابهم دون أن تكون لهم القدرة على البوح بها أو التعبير عنها بل يتجرعونها في مرارة بمفردهم.
تدور الرواية حول “يونس”، الشاب الثلاثيني الفقير الذي يعمل سباكا، والذي يرسل ملفا لكاتب لم يجمعهما سوى ورشة كتابة، ويضم العديد من الكتابات والخواطر التي حاول من خلالها أن يعبر عما عانى منه طيلة حياته بداية من مجيئه العبثي للدنيا، مرورا بأخيه الأكبر الذي أخذ ميراثه، وخيباته المتتالية، وصولا لأسباب اختفائه المفاجئ، والتي حاول ذلك الكاتب الوصول إليها بعد العزومة التي دعاها إليه يونس هو وعدد من الأصدقاء ولم يستجب لها أحد.
حاول “سويدي” أن يحكي عن حياة المهمشين وآلامهم من خلال شخصية “يونس” ووالدته “روحية”، التي تعبت من شقة العمل في المنازل لتسعى على تربيته، وكيف أصبح عملها هذا وصمة في جبين ابنها طوال حياته،واستطاع الكاتب بشكل رائع أن ينقل مشاعر الانكسار والحزن التي يعاني منها هؤلاء المهمشين فقط لأنهم “عاديون” يحملون من البساطة والهدوء ما لا يثير فضول الآخرين تجاههم، فلا يجدون سوى التجاهل والنفور وبردو المشاعر الذي يزيد من لهيب أنينهم.
– بين الواقعية والغرائبية
رغم كون حياة هؤلاء “العاديين” غاية في البساطة إلا أنها مليئة بالغرائب والأهوال التي تصلح لأن يعاد صياغتها بشيء من الفانتازيا، وهو الأمر الذي قدمه المؤلف بصورة ساحرة، مزج فيها بين الأحداث الواقعية بكل ما فيها من قسوة والخيال الخصب الذي أعادنا إلى حكايات ألف ليلة بكل ما فيها من غرائبية وأسطورية وإسقاطات على واقع لا يمكن التعبير عنه من شدة ما يحويه من هول إلا بهذا القدر من الفانتازيا.
أعتقد أن أكثر ما يميز هذه الرواية هو ذلك المزج بين الفانتازيا والواقعية، للدرجة التي لا تجعلك تنفصل بين قصة وأخرى أو في الانتقال من حدث لآخر؛ فكل الطرق تؤدي إلى المعاناة والخذلان، وكل قصة في نهايتها قطعة في لعبة “البازل”، تكمل الصورة الكلية للرواية.
– لغة سلسة وسرد متنوع
تعد “العزومة” هي العمل الروائي الأول لطه السويدي، لكنك تجد براعة في سرد الأحداث بأسلوب شيق ومتنوع، تعددت فيه الأصوات ما بين “يونس” و”طارق” بطلي الرواية، يروي كل منهما القصة من زاوية مختلفة، وبلغة سلسة تبتعد عن التراكيب المعقدة أو المفردات الصعبة، وببناء درامي متصاعد يزيد من حالة تشويق القارئ للتعرف على “يونس” وسبب اختفائه، رغم أن الجميع يعامله بتجاهل كبير وسخرية مما يتفوه به.
تصاعد الأحداث وتطور أسلوب الحكي وتقنيات السرد مع الدخول أكثر في عمق الرواية، والاختلاف الواضح في قدرة المؤلف على التحكم من أدواته، يجعلك متأكدا أن هذا النص لم يكتب على عجل، بل أخذ مراحل متعددة في بناء القصة وسردها وتصاعدها الدرامي، ينبئ عن كاتب واعد لديه موهبة قوية ستزداد نضجا وتوهجا بتنوع الكتابات والاستمراية.
– حينما يتحول التجاهل إلى قاتل محترف
تجسد الرواية التجاهل واللامبالاة التي يقابلها هؤلاء البسطاء في المجتمع، ومدى المعاناة التي يواجهونها جراء تلك التصرفات، وكيف يتوغل ذلك التجاهل داخلهم ليبتلعهم، وكأنه ثقب أسود لا يمكنك أن تتفلت منه، ولا تدري إلى أين ينتهي بك.
يعكس المؤلف صور ذلك التجاهل، والذي أراه من أقسى المشاعر التي يمكن أن تعتري الإنسان، في أشياء قد تبدو بسيطة، مثل عدم الاكتراث بما يقال، أو النفور الدائم وغير المبرر، والسخرية من الأحلام والآمال، والرفض المتكرر بسبب ظروف لم يكن ليونس يد فيها، ظروف عبثية فرضت عليه.
– ظلم وفقر وعادات ظالمة
ناقشت الرواية العديد من القضايا سواء على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، فناقشت الظلم بكل ما يحمله من تناقد مع شهامة أهل الريف وتدينهم الظاهري، فالأخ يستولى على ميراث أخيه الأصغر، على مرأى ومسمع أهل البلد، دون أن ينهره أحد أو يردعه قانون، كذلك تبرز العادات والتقاليد الخاطئة والظالمة لتقف في جانب الباطل على حساب صاحب الحق، كذلك النظرة الدونية للفقراء والبسطاء والسخرية من رغباتهم وأحلامهم، وكأنهم بشر “درجة تانية”.
كذلك الازدواجية التي تغلب على المجتمع وخاصة أهل الريف، ونظرتهم للمرأة وحقوقها وحالتها الاجتماعية، فالبنت ما هي إلا جسد للمتعة والخدمة، وليست مشاعر ورغبات وأحلام، كذلك عكست الرواية الكثير من الأزمات التي تواجه المطلقات في المجتمع وكيف تصبح الحياة أكثر قسوة عليها لما تواجهه من نظرات الناس والمعتقدات الظالمة لها والعراقيل التي تقايلها في بناء أسرة جديدة أو المضايقات التي تصطدم بها خلال سعيها وراء لقمة العيش.
لم يتوقف الأمر عند الظروف المعيشية والتقاليد والعادات الجائرة، بل تناولت الرواية بعض القضايا الاقتصادية مثل انخفاض مستوى المعيشة وعمل كثير من الشباب في وظائف يراها المجتمع دنيا، رغم درجتهم العلمية العالية، كذلك جشع وتوحش القطاع الخاص وما يعانيه العاملون به من ظلم واستغلال وتهديد دائم بالتشريد والطرد، وصعوبة رد العاملين لحقوقهم في ظل قوانين عقيمة غير مرنة.
“العزومة” عمل أدبي مميز، يرصد حياة المهمشين والمنسيين في هذا العالم، وما يعيشونه من خذلان وألم وانكسار، لا يملكون القدرة على البوح بها، ويطرح العديد من التساؤلات حول طبيعة البشر والقدرية وحقيقة الرضا وعبثية الحياة.
.. تم نشر هذا المقال لأول مرة بموقع صدى ذاكرة القصة القصيرة، بتاريخ 25 ديسمبر 2020
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب