لباريس في شهر أبريل رائحة خاصة. تلك الرائحة الندية التي تصاحب تفتح ملايين البراعم مختلطة بروائح المخبوزات الصباحية والقهوة. وأنا في ذلك الصباح مرتبك قليلا. سر ارتباكى مضحك ويدعو إلى التعجب. ببساطة أنا هنا من أجل موعد قد حددته من عشرين سنة. يبدو الأمر كله مجرد مزحة لا تصدق.
من عشرين سنة عندما كنت في زيارة طويلة للمدينة الأقرب إلى قلبي. تعرفت على شاب مغربي اسمه أنور. وديع ومصاب بالتوحد بدرجة غير ملحوظة. كان هذا سره الأكبر الذي أسره لي في لحظة صدق لا تنسى.
كنت في تدريب أكاديمي لشهور بمعهد باستير الشهير وهناك قابلت الشاب الملغز. تقريبا لا يتحدث مع أحد لكنه الأنبغ وسط كل طلاب الدكتوراه في المعهد. تجعله النتائج العلمية المبهرة التي يعرضها فى الاجتماع الشهري لقسم الميكروبيولجى موضع حسد من الجميع. وبمصادفة كانت حجرتي في سكن الطلاب بجوار حجرته.
أنور لا ينام لياليه كبقية البشر. يتحدث لساعات طويلة مع حبيبة متخيلة. وكأنه يستعيض بها عن كل الصمت الذي يعيشه في صحبة البشر الحقيقيين. كان صوته دائما عال جدا. خاصة عندما يتشاجرا ويبدأ بعدها في نوبة طويلة من الاعتذار لحبيبته الوهمية. تنتهي دائما بنوبة أطول من البكاء الذي يفطر القلب.
وعلى هذه الحال مرت ليالي الطويلة بين انبهاري بأنور الشاب النابغ وحزني عليه وإرهاقي من عدم قدرتي على النوم. إلى اليوم الذى قررت أن أشتري باقة أزهار جميلة وأضعها أمام غرفة أنور المسكين. وفي باقة الأزهار وضعت كارت صغير مكتوب فيه جملة وحيدة. حبيبي أنور سامحني على كل جنوني.
ليلتها هدأ صوت أنور تماما واستمتعت لأول مرة بالنوم. وعلى مدار الأسابيع التالية اعتدت أن أشترى الهدايا الصغيرة وأضعها أمام حجرة أنور. ومع مرور الوقت استطعت أن أكتسب ثقة جاري العربي المسكين.
حافظ أنور على تلك المسافة من الصمت مع الآخرين. وكنت أنا صديقه الوحيد. نتناول العشاء والقهوة في مقهى صغير أمام معهد باستير. يحكي لي بجمل قصيرة عن حياته الصعبة. أمه التي تركته لجده العجوز ورحلت. والده الذي لم يعرفه أبدا. وبالطبع عن حبيبته غريبة الأطوار التي تزوره سرا بالسكن الجامعي.
إلى الليلة التي سبقت يوم رحيلي عن باريس. ليلتها تناولنا قهوتنا وطلب مني طلبه العجيب هذا وهو ينظر إلى فنجان قهوته طويلا. أن نتقابل الأول من أبريل في نفس المكان بعد عشرين سنة. ساعتها وافقته كي أترك له ذكرى طيبة عن الشخص الوحيد الذى يعتبره صديقه.
وخلال العشرين سنة التي مرت أسرع مما تخيلت كنت أتابع أخباره عن بعد. علمت أنه أصبح أحد أهم العلماء في مجاله في العالم. حاولت الاتصال به في مكتبه في الجامعة لكن سكرتيرة القسم أخبرتني بأنه لا يرد على التليفون أبدا. أرسلت له من سنوات إيميل على إيميله الجامعي لكنه رد بأن العشرين سنة لم تنتهي بعد. واليوم كنت بمصادفة رتبها القدر في فرنسا. فقررت أن أوفي بوعدي وأذهب لمقابلة البروفسير أنور المغربي.
كان هناك على نفس الطاولة أمامه فنجان الاكسبرسو وكأن شيئا لم يتغير. أصاب الشيب شعره قليلا لكنه بنفس عوده النحيل جدا ونظرته الغريبة الساهمة. كنت أتمنى معانقته لكنه اكتفى بالسلام بشدة على يدي. عرفت أنه تزوج وأصبح له أبناء. حكيت له عن سفري الدائم وحياتي فاستمع صامتا بطريقته المعتادة. صمت طويلا حتى شعرت برغبتى في تركه بعد أن اكتفيت بالاطمئنان عليه. لكني عندما هممت بالانصراف. أخرج حقيبة صغيرة كان يخبئها تحت الطاولة. وبتأثر واضح أخبرنى بأنه قطع علاقته بحبيبته التي كانت تزوره سرا في سكن الطلبة بالجامعة. وأنها طلبت منه أن يعيد لي هداياها.
وبهدوء وقف وعانقني طويلا. ليتركني ويختفي دون أن يطلب مقابلتي مجددا. فأخرج من المقهى أمشي وحيدا في شوارع باريس. أستنشق رائحتها الخاصة المعبقة بالبراعم التى تتفتح فى أبريل مختلطة برائحة المخبوزات والقهوة.
للتواصل مع الكاتب من "هنا" أو من خلال التعليقات
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب