القائمة الرئيسية

الصفحات


صفا صيام


على مر العصور، كانت محاولات نقل العلوم والآداب من ثقافة لأخرى ومن لغة لأخرى هي حتماً أهم أسباب ازدهار المعارف الإنسانية كلها.


قبل أن يفكر الإنسان في تجربة الترجمة، كانت ثقافات الشعوب منغلقة على نفسها لا تتعداها إلى غيرها، إلى أن استطاعت الترجمة أن تحطم جُدُرَ العزلة وتسمح بتداول كل ما يختلج من عوالم وتغيرات وحركة طبيعية لكل ما يمت للحياة بصلة بين بقاع الأرض.


وإذا كانت تراجم العلوم بين شتى الحضارات قد شكلت نقلة نوعية في مجرى العلوم البشرية، فترجمة آداب الشعوب وفنونها وأمزجتها وأروقة آلامها ومتعها ومعاناتها، كانت ولا زالت جسوراً سحرية بين الأرواح البشرية تذيب الفوارق والاختلافات وتمنح النفوس على اختلاف ألوان أجسادها أسباباً للتآلف والتعارف والتكاتف.


غير أن ترجمة العلوم في الحقيقة -على قيمتها ومكانتها-، ترتكز أكثر ما ترتكز على إحاطة القائم عليها بالعلم الذي يترجمه وإتقانه للغتين اللتين يترجم منها وإليها، ولا تكترث كثيراً لمدى إبداعه.


أما في عالم الأدب، ينقل المترجم نصاً مفعماً بالمشاعر الإنسانية وخلاصة روح كاتبه من ألفاظ لغته التي اختار كل حرف فيها بكامل اندماج عقله وقلبه ووجدانه، إلى أحرف لغة غريبة عنه تماماً بسمت مختلف وألفاظ مغايرة ومساحات جديدة.


عند نقله ذلك النص من لغة كاتبه، لا ينقل كلمات صماء مكتوبة على ورق، وإنما يخترق الجدران اللغوية والثقافية والشعورية وينقلها من روح لغة إلى روح لغة أخرى، مجابهاً تحدياً كبيراً في الحفاظ على أسلوب الكاتب ووقع ألفاظه وطعم كتابته مضفياً عليها البراعة اللازمة لطبع أسلوب ذلك الكاتب طبعاً متقناً على اللغة الجديدة، بألفاظها وحروفها ومعانيها وأحاسيسها دون أن يشعر القارئ بأدنى فارق!


فالترجمة هنا إذن ليست معنىً لفظياً ضيقاً، وإنما هي إبداع شبه إعجازي لمساحة وسيطة تتسع لاستيعاب واحتواء السياق العام لكل من اللغتين، والسياق الثقافي لروادهما، ومحاولة المترجم وضع نفسه طوال العمل في مكان المؤلف حتى يتسنى له أن يمرر للقارئ ما خفي عنه بالضرورة من قصد الكاتب وروحه في نصه الأصلي.


كل هذا يجعل من الترجمة الأدبية فناً من طراز رفيع و علماً لا زال أمامنا الكثير لنفهم كل جوانبه وأغواره..

وإذا كانت الترجمة الأدبية في عمومها من أصعب ما يمكن أن يقوم به الأديب، فالترجمة إلى اللغة العربية تعد من أصعب التراجم على الإطلاق، ليس فقط لاختلاف قواعدها وأنماط التعاطي معها عن كل اللغات التي تتم الترجمة منها، لكن أيضاً لاتساع بحورها وكثرة أساليبها وصعوبة خلق نص متين يرتقي لبلاغتها.


ومن غرائب هذا العالم المفعم بإنكار الذات -عالم الترجمة- أن ذِكرنا للمترجم عادة ما يتناسب عكسياً مع مدى جمال ترجمته! فكلما كان المترجم أديباً مبدعاً، تغنينا أكثر ببراعة الكاتب الأصلي وإبداعه وسلامة لغته وألفاظه وجمالها، ونسينا المترجم! لأنه في هذه الحالة بالذات يكون قد نجح في التحدي الموكل إليه: أن يكتب بكل حرفية وبراعة وإبداع، ليظهر جمال أسلوب الكاتب الأصلي ويجعل أحرفه تلمع كالنجوم، بينما يتوارى هو خلف الأسطر والكلمات، منتظراً جل تقديره فقط من التاريخ والإنسانية! هو ذاك.. تحدي الجندي المجهول!


author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات