عبير سليمان
اعتدت عند بداية القراءة لنجيب محفوظ أن أراجع تاريخ الإصدار، ببساطة لأن كل مرحلة من تاريخ مصر انعكست بقوة على رواياته وقصصه، ونلاحظ أن محفوظ تمكن بذكاء من التعبير عن سخطه من بعض الظواهر الاجتماعية والأحداث السياسية بأسلوب غير مباشر؛ هو يرى أن قارءه ذكي يستطيع إدراك المعنى من بين السطور، لذا هو يصحبه معه داخل الصورة يتجول به بين أركانها ويشرح له بعض التفاصيل، ويترك له بعض الإشارات ليفهم الباقي دون أن يفصح عن كل ما يريد البوح به.
لا أبالغ أبدا إن قلت أن هذه المجموعة خادعة، لأني شعرت في القراءة الأولى بطغيان روح المرح والدعابة والسخرية وأنها مجرد حكايات ممتعة، لكن في قراءتي الثانية والثالثة توقفت لأكتشف أن أديبنا قد أودع بعض المعاني الخفية والإشارات الخافتة ليعبر من خلالها عن وضع مصر في تلك الفترة -حسب تخميني - من أوائل الستينيات حتى نكسة 67 وما تبعها من تغير البنية الاجتماعية للمجتمع، والتدهور الأخلاقي الذي عكسته الهزيمة على أبناء الوطن، وكيف شهدوا حلمهم الكبير ينهار ويتحطم أمام أعينهم، ويتحول إلى ذرات من تراب أصابت العيون والبصائر بحالة من العمى المؤقت، مما أدى لشيوع حالة من الاضطراب والتخبط حلت بالمجتمع كله.
تتنوع قصص نجيب محفوظ هنا ما بين أجواء البارات وأحوال السكارى والمحبطين ما بين أجواء الحارات وصراعات الفتوات التي عادة ما تنتهي بنهايات إما مأساوية وإما عبثية، يفرغ عليهم طاقة سخريته من حماقتهم رغم ما يدعون من ذكاء وحكمة ليحكموا الخناق على أهالي الحارة، ويوهمونهم بقوتهم الزائفة وبطشهم، وهم في الحقيقة كائنات حمقاء يملؤها الزهو والعجب، بينما تجد منهم "وهو بطل قصة كلمة غير مفهومة" يتعرض لخديعة تنهي تاريخه في الفتونة نهاية لم تخطر له على بال، وكيف نرى أن إنسانا كفيفا وفقيرا أوقعه في شر أعماله، لأجدني في النهاية أتعجب وأحتار ءأسخر منه ومن حماقته أم أفرح لأن ما حدث له هو محض عدالة إلهية كان لا بد أن تحل عليه جزاء ترويعه للأهالي واستعانته بالأعوان الملتفين حوله يحيطونه دائما بالمديح، يسيرون معه في مواكب صانعين حوله هالة من الوقار المزيف ليبثوا الرعب داخل أهالي الحارة بالزفة الكذابة، وعند وقوعه في الفخ يعجزون عن حمايته!
كل هذا يعبر عنه محفوظ بجمل تحمل دلالات عن شخصية قائليها، مثل: "نحن حولك كالجدار"، قد يخيل للقاريء أن محفوظ أراد التعبير بالرمز عن مصير الحاكم المستبد إن أعماه الغرور عن رؤية الحقيقة، وأعماه الطبالون والمنافقون المقربون منه عن إقامة العدل وكأنه امتلك من البصيرة ما جعله يتنبأ بما حدث للرئيس عبد الناصر وقتها من انكسار عقب النكسة، ولم يفلح رفاقه الضباط في تهدئة غضب الشعب، ولا في تدارك توابع الهزيمة النكراء، ثم ما حدث من مآسي متتالية انتهى بها عصر عبد الناصر أشهرها مذبحة أيلول الأسود 1970، وتوفي بعدها مباشرة.
في القصتين "السكران يغني" و"خمارة القط الأسود" يفرغ محفوظ طاقته من الغضب من حال مجتمع الليل ورفاق الحانات في صور ساخرة تفيض بالتهكم اللاذع، ويصف لنا بلغته الثرية، كيف أن رجلاً سكرانا اختبأ من صاحب الحانة ومساعده، وانتظر لحظة خروجهم، وتجول في الحانة فشرب حتى الثمالة، كان يخطط للسرقة ولم يعثر على أي شيء يستحق السرقة، وعندما خاب رجاؤه، أصابه الجنون، ترى إلى أي مدى وصل به الجنون ؟ وهل اكتشفه أحد المارة بالشارع ، هل قبض عليه؟ ترى ما هو مصيره؟ كل هذه التفاصيل لا يجب الإفصاح عنها.
وفي خمارة القط الأسود صورة أخرى لا تقل سخرية وتهكما عن سابقتها لكنه برع في رسمها بتفاصيل أخرى مختلفة تماما، متخذا من القط الأسود رمزا يشير إلى أن البشر أحيانا يصنعون من كائنات هشة منتفخة بالغرور المزيف، فزاعات يرتعدون منها ويخافون إثارة غضبها، ويفيقون من مخاوفهم ويتحررون منها بعدما تنتهي سلطة تلك الكائنات، فلا يصبح لتمردهم عليهم معنى.
في قصة "صدى" نرى مشهدا يتحرك أمامنا على الورق، تكاد ترى الشخوص تنطق فتسمع صوت حديثهم وخطوات العصا على الأرض ، وعتاب الابن القاسي، الذي يظهر أمامنا رجل كهل مريض، لكنه في زيارته لأمه يتحدث معها بلهجة ثائرة غاضبة حانقة، مما أثار غضبي ووجدت نفسي أتفاعل مع الحالة بكل جوارحي، لدرجة سببت هذا الابن في سري وتساءلت: "من هذا الابن الوقح؟ ترى ماذا فعلت أمه ليوبخها بكل هذا العنف؟ ويوجه لها سهام غيظه؟ ومن وقاحته لا يقدم تبريرا أو سببا مقنعا لحديثه السام لأمه العجوز، وستندهش لماذا الأم صامتة ولا ترد بكلمة واحدة ؟ إنه لم يسأل نفسه طوال حديثه المسترسل لماذا لا ترد عليه؟ ولم يسمح حتى للخامدمة العجوز بالدخول، كأن الغضب أعماه عن البحث عن تفسير لحالة الوجوم المريبة التي أصابت السيدة المسنة التي تمسك بيدها السبحة ولا تتحرك".
إن مشهدا كهذا شاهد على عبقرية أديبنا النبيل، قفز إلى عقلي سؤال: "ترى هل تعمد محفوظ هنا أن يقدم لنا مصر في صورة رمزية قاصدا بها الأم المسكينة التي لا ترد ولا تتفاعل مع ابنها العاق المعترف بعقوقه وجفائه؟"
نعم رأيت أمامي الصورة كأن السيدة الصامتة هي مصر الغاضبة من مجموعة الضباط الذين تقلدوا السلطة ولم يحافظوا على أرضهم وعرضهم، وتركوا بلدهم تستباح وتنتهك بعدما عاثوا فيا فسادا، ومارسوا أبشع ألوان الظلم على أي شخص يعارضهم، اقتحموا المنازل، عذبوا المعارضين في السجون بمنتهى الوحشية، انشغلوا بمطامعهم وتركوا الحدود مستباحة للعدو، فالتهم الأرض المقدمة له على طبق من ذهب، ومن وقاحتهم رفضوا الاعتراف بجريمتهم، وها هم يمثلون صورة الابن الذي أتى لا ليطلب من أمه السماح، بل ليطلب منها أن تفسر له رؤية ، بينما هو يعترف لها بأنه ليس وليا ولا إنسانا صالحا!
نرشح لك: حصريا.. قصة "موت حلو المذاق" بصوت أحمد القرملاوي
والأعجب مما سبق هو ما تخلله حديثه من بعض إشارات، كأن محفوظ هنا يصف حال المصريين، المصابين بالتخبط وعدم اليقين ، الذين يتذكرون ربهم فقط في الأعياد والمواسم المرتبطة باحتفالات يغلب عليها مظاهر البذخ وشراء النُقل وعمل الكعك، وأنه وإخوته من أبناء مصر ممن يعيشون للرصاص والدم لا يجب أن يبحثوا عن راحة إلا في الموت، والأفضل لهم أن ينتحروا قبل أن يقتلوا!
وتوقفت أيضا عند بعض القصص الرقيقة الناعمة التي تحمل بداخلها عمقا فلسفيا، مثل جنة الأطفال، ورجل سعيد، وشهرزاد.. ولا يكف محفوظ أيضا في معظم قصصه عن وضع بعض أبطاله في مآزق تكشف ضعفهم الإنساني واستسلامهم لرغباتهم، مما يؤدي بهم لمصائر عبثية تراجيدية.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب