القائمة الرئيسية

الصفحات

صفا عزت تكتب: إلى الأستاذ جمال الغيطاني



 أستاذي العزيز، جمال الغيطاني..

عبر جدر شفافة لكنها أغلظ من أن تحطم، بين عالمين لا يلتقيان إلا عند باب يفصل بين الموت والحياة، أبث كلماتي إليك.. ترى هل يمكن أن تصلك كلماتي وأنا التلميذة التي لم ترها حتى يومًا؟ تجهلني تمامًا، رغم أني أعرفك أكثر مما يمكن أن تتصور..


بعيد أنت يا سيدي لكنك لست بغائب. منذ قررت مصر أن تفتح جسور الزمان لتمنحنا الطريق مرة أخرى لنرى أنفسنا في مرآة أجدادنا، وأنا أشعر بروحك تحوم حولنا وتحلق..


لا أعرف كيف أمهد لك ما سأقصه عليك، ورغم يقيني بأنك إن سمعت كلماتي سوف تبكي، فأنا لا أعلم هل ستبكي فرحًا بتحقق حلمك الذي عشت لأجله زهرة عمرك؟ أم حزنًا على كونك لست بيننا اليوم لتشاهده بعينيك الصادقتين وهو آخذ في التحقق؟


كم كنت أتمنى أن ترى كيف لمعت بلدك الحبيب الأقصر أمس ككوكب دري في سماء الكون.. أتصدق يا سيدي؟ أقيم من جديد احتفال "الأوبت" في ساحة احتفالات معبد الأقصر-الأقرب إلى قلبك- هنالك في البهو المحاط بالأعمدة، نفس الأعمدة التي تخللت المسجد الذي يتعبد المصريون فيه إلى اليوم بين أحضان محرابهم القديم.. حملوا مراكبهم على طريق الكباش المهيب، كما يحمله الأقصريون إلى اليوم في موالدهم..


أتصدق يا سيدي؟ استلهم الأحفاد أخيرًا ما كان يصنعه الأجداد، جرى من نفوسهم جريان العروق، نجحوا في تلك السويعات أن يتلبسوا أرواحهم ويستشعروا ما كانوا يغنون ويدينون وكيف كانوا في سماء الحقيقة يسبحون. رقصوا من قلوبهم وترنموا ملء نفوسهم وتطلعوا إلى السماء بكل ما فيهم من تقى، فاخترقوا جدر الزمان، ووصلوا إلى هناك حيث ترقرقت مياة النيل تحت نفس الشمس، وتهادت خطى المؤمنين فوق نفس الأرض، ثم عادوا وعدنا معهم بقلوب جديدة وعيون أكثر بريقًا، كما كنت تحلم، كما كنت تطلب..





آه يا سيدي لو كنت هنا لترى حفيداتك المصريات وهن يتهادين متمايلات على البحيرة المقدسة في حضن القمر، تحملن بين راحاتهن قلوبنا، لعلك إن رأيتهم لظننتهن أطياف إيزيس وتي ونفرتيتي أتين لِيَطُفْنَ حول نور الحياة في بحيرتهن المحببة من جديد..


أصبحنا أخيرًا يا سيدي نستطيع أن نفهم ما هو سر ارتباطنا بهذه الأرض، أصبحنا قادرين على أن نمد أيدينا فنلمس بأناملنا ما جهدت أنت في التنقيب عنه طوال عمرك من صلة روحية متينة بيننا وبين هؤلاء الأجداد، استطعنا أخيرًا أن نبدد الغشاوة التي رانت على قلوبنا عقودًا وأجيالًا لتفصلنا عن منبعنا وأصل الحنين القابع فينا؛ ذلك الذي مسته ترانيم الأجداد فأزكت فيه النور..


لا أدري لماذا لم أفكر أن أراسلك من قبل، ربما لأنني أراك دائمًا رغم تواضعك الشديد في مكانٍ عالٍ يصعب إدراكه، لكن ما استطعت فعله هو أن كتبت مقالاً في مجلة عالم الكتاب العريقة، عن كتابك الرقيق "نزول النقطة"، وعن ترنيمة إيزيس؛ الترنيمة البكر في العالم الذي كنت تحلم أن تأخذ أيدينا إليه.. سميته "ترنيمة على أنغام كتاب" كانت كذلك فعلًا يا سيدي، شعرت وكأنها تترنم على أنغام كتابك، بل على أوتار قلبك..


ترى هل نما ذلك إلى علمك؟ هل يمكن أن تكون كلماتي قد أسعدتك؟


لعلك اليوم في دار الحق قد امتلكت زمام الحقيقة المطلقة، لعلك لست بحاجة لأي من تلك الكلمات، لكنني بحاجة إليها ربما فقط كي أخبرك..


أعدك يا سيدي أن أخبرك، كلما حلقت أرواحنا معهم من جديد كما علمتنا سأخبرك، كلما مُنحنا أجنحة جديدة سأخبرك..

أعدك أن أخبرك..





author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات