القائمة الرئيسية

الصفحات

حصريا.. ننشر فصلا من رواية "الغميضة" لـ وليد علاء الدين


هبوط غير اضطراري


ما زالت حشود المقنعين تملأ ساحة الانتظار، البعض يتجول في الأنحاء، والبعض جلوس على مقاعد المقاهي والكافتيريات ونصبات الشاي المتناثرة في المكان. وإذا استغللنا نفوذَ الراوي فاستخدمنا منظورَ عين الطائر ستبدو لنا الثنائيات والتجمعات بين وقوف وجلوس كبثور جدري في بطن طفل ذي كرش. وتفاديًا للأثر السلبي يمكننا أن نقرب الشبه بين المشهد من أعلى وبين لوحة "ليلة النجوم" التي رسمها ڤِنسنت ڤان جوخ بعد أن اكتشف طبيبه أنه يعاني من الصرع، فقط إذا أعاد رسمها طفلٌ له كرش.


على مقهى صُممت واجهته على هيئة المعابد الفرعونية، يجلس السيد (س)، وهو رجل أربعيني، لا يضع قناعًا، مكتفيًا بملابس عصرية مستوحاة بمهارة من خليط من أشهر طرز الأردية الفرعونية والجلباب الصعيدي. أمامه على طاولة ذات قرص خشبي مرفوع على قوائم معدنية رفيعة وطويلة كوب شاي، وعلى ركبتيه لابتوب مفتوح. ورغم انهماكه في القراءة والكتابة.. فإنه لا ينسى بين الحين والآخر أن يرفع كوب الشاي إلى فمه ليسحب سحبة قصيرة قوية تدل على مزاج قريب من التوتر ثم يعيدها إلى موضعها.


في مركز الرؤية قرب منتصف الساحة، وفق زاوية عين الطائر، ثمة مجموعة لافتة للنظر، تعلن عن نفسها من خلال تلاصقها الغريب، يبدون أقارب أو أقارب ومعارف مقربين لبعضهم البعض، خليط من رجال ونساء في أعمار وهيئات مختلفة، النساء غارقات في السواد من أخامص الأقدام حتى الرؤوس الملتفة بأنقبة سوداء كذلك، والرجال في جلابيب معظمها أبيض تتألق في بياضها لحى سوداء كثة ومتوسطة، بعضها أسود وبعضها تسرب الشيب إليه فخلطه ببياض.. معظم الرؤوس مغطاة بأقمشة بيضاء تنسدل على الأكتاف، ثمة استثناءات في الملبس والألوان وأغطية الرؤوس وبعض الأكسسوارات الحريمي والرجالي .. لن ندركها من زاويتنا هذه. يشكل الفريق شبه دائرة مزدحمة، يتوسطهم الشيخ وائل، وهو شاب ثلاثيني يرتدي ملابس معاصرة مع تعديلات تناسب تصوراته؛ فالبنطلون قصير عند حدّ الكاحل، ولكنه من قماشة فاخرة، والقميص فضفاض أبيض يشي بنوعيته الممتازة، وساعة يد تلتف على معصمه الأيمن، معدنية ذات لون فضي، يلمع قلبها بلون يشبه –ولعلها الصدفة- لونَ التمساح الأخضر الصغير الذي يميز القميص. أما الصندل الجلدي الأنيق فيمكننا أن نستشف غلو ثمنه من لمعة دكناء يبثها جلده البني المائل للسواد، وكذلك من نعله السميك ذي التقاسيم المخصصة لحماية الجسم من الصدمات، إذ يضع الشيخ وائل ساقًا فوق الأخرى ليتمكن من إراحة يده الممسكة بالآي باد، بينما يجلس مستريحًا إلى حد ظاهر على حقيبة سفره المتينة ذات الجوانب العريضة، والتي تُكمل هيئتَه وتدل على اهتمامه الكبير بالماركات العالمية بما لا يتعارض مع إيمانه الذي تُعلنه لحية كثة وشارب محفوف ورائحة مسك لا تفارقه.


عليّ تذكيركم بأصوات موقَف الأتوبيس المعتادة.. خلطة حقيقية من أغاني المهرجانات، ونداءات الباعة أو شتائمهم. إذا كنت جالسًا فمن المستحيل معرفة عدد أصوات قراء القرآن الكريم الصادرة من ميكروفونات المقاهي أو عربات الكبدة والسجق والفطير والمعمول.. ستسمع شدوًا يتسرب بين هدير الأصوات، ربما تلتقط أذناك منه نتعة حلوة للشيخ عبد الباسط أو تغريدة فارقة للحصري أو سحبة طويلة للشيخ شعيشع، أو تصفعك صرخة مجلجلة لمقرئ من مدارس الجفاف. أما إذا بدا لك أن تتجول بهدوء فيمكنك الحكم على أمزجة الباعة والقهوجية ليس فقط من خلال أشكالهم وملابسهم وإنما أيضًا من خلال صوت المقرئ الذي اختاره كل منهم ليستهل صباحه.


وسط هذا الجو الاحتفالي بلا احتفال، يدخل الطفل والطفلة يدًا بيد مندفعين بقوة الطرد من الحكاية الثالثة، يندهشان من هذا الزحام والفوضى وخلطة الموسيقى بالأصوات، يقلبان أعينهما في المكان ويقرران الوقوف في أقرب نقطة مأمونة إلى جوار السيد (س) الجالس على المقهى منهمكًا في اللابتوب دون أن ينسى كوب الشاي.

انتقلت الطفلة إلى جهة الطفل الأخرى لتصبح أكثر قربًا من زاوية المقهى الذي شعرت معه بالأمان، سرحت بعينيها في تفاصيل ديكوراته المستوحاة من الفن المصري القديم، لمحت تماثيل لإيزيس تُرضع طفلها حورس، سألت الطفل "هو احنا لسه في الحلم بتاعك؟".. سمعها ولكنه كان منشغلًا هو الآخر بتلك الرسوم، رأى صورة لتحوت إله الحكمة له رأس طائر أبي منجل، وبالقرب منه وقفت الأنيقة ماعت إلهة الحق والعدل والنظام على رأسها ريشة وفي يدها مفتاح الحياة.. "مش عارف" أجابها بينما يسحبها من دون وعي إلى مدخل المقهى متأملًا بقية النقوش. تراجعت أصوات الضجيج، وقفا مشدوهين أمام جدارية ضخمة تصور إلهة السماء نوت يرفعها شو إله الهواء بينما يستلقي "جب" إله الأرض أسفل منها. كررت الطفلة سؤالها "هو دا حلمك؟".. أدرك خطورة الموقف، هذا المقهى وإن أعجبه ليس جزءًا من حلمه المتكرر.. هناك من حذف هذه الأشياء الجميلة من حلمه وذاكرته وخياله، سحب البنت وركضا إلى الخارج، عاد الضجيج، انزعج وانتابه الحنين للعودة إلى لوحة السماء التي ترصعها النجوم.. راحا يتجولان في المكان، ويتوقفان قليلًا أمام كل مجموعة ويراقبان باندهاش فتسأله البنت التي بلغ بها القلق مداه.."قرايبك دول؟" فلا يرد ويسحبها إلى جماعة أخرى، .. "طب دول تعرفهم!" ولا يرد ويتحركان إلى حشد آخر، إلى أن وصلا إلى المجموعة التي يتوسطها الشيخ وائل.. "ودول .. قرايبك؟" سألته كأنها تبكي .."عندي قرايب زيهم، بس مش عارف هما والّا لأ".. يعود إلى قلبها بعض الاطمئنان تحاول أن تستكمله بالدعابة "يا أهبل... مش عارف قرايبك؟!".. "طنط صفاء بتلبس كده" أجاب وهو يقترب من واحدة من النساء المنتقبات الكثيرات المحيطات بالشيخ وائل.. أشار إليها بشكل يسمح للطفلة بمعرفة عمن يتحدث، اقترب من أخرى "وطنط إحسان طولها كده تقريبًا".. ترك يدَ البنت، دخل إلى وسط الدائرة ليشير إلى امرأة لمحها ذكرته بأبله ضحى.. جارتهم في الطابق الخامس... لو كانت هي، سيحكي للبنت عن حكايته معها عندما جاءت إلى العمارة عروسًا وخرج الزوج في الصباح ولم يعد، وكيف قضى معها ثلاث ليال لأنها تخاف النوم بمفردها وتخشى مهاتفة أهلهما في الصعيد، إلى أن ظهر الزوج المسكين، أصابته حالة صرع وهو في طريقه إلى الورشة فنقله أولاد الحلال إلى مستشفى ولما أفاق عاد. سينتظر إلى أن تسأله عن الصرع فيجيبها مستعرضًا معارفه التي حفظها من حكايات أبيه وأمه وكل الجيران.. اقترب الطفل من السيدة المنتقبة، صرخ الشيخ وائل في انفعال "ياااابن الجززززمه".. ركض الطفل مذعورًا خارجًا من الحلقة، نظر خلفه فوجد البنت على الجهة الأخرى، اخترق الحلقة في شجاعة وعاد إليها، كان قلبه يدق بسرعة ذكرته بضفدعته اللعبة التي يعبئها بالزنبرك فتتقافز في مكانها فيضحك، هذ المرة لم يستطع الضحك.. أمسك بيد الطفلة وجرها لتركض معه، استمهلته وأشارت بإصبعها إلى داخل الحلقة وهي تهمس له ليهدأ "ما كانش بيشتمك".. نظر إلى الجهة التي يشير إليها إصبع البنت، ثم اندمج معها في مراقبة المشهد.


اقترب بعض رجال الحلقة من الشيخ وائل متسائلين، كان يحوقل غاضبًا، ضرب أحد الرجال كتفه بعنف ظاهر "مالك يا شيخ وائل، خير إن شاء الله؟".. لم يلتفت الشيخ وائل كأن الضربة القوية لم تعنه في شيء، رفع الآي باد إلى أعلى وقال منفعلًا "قريتوا اللي كاتبه ابن الجزمه ده؟".. انتبه الجميع، تجمعت الرؤوس عندما بدأ الشيخ وائل في القراءة مباشرة من دون انتظار رد، محملًا صوته قدرًا من التأفف والسخرية "إن مناقشة منع ارتداء النقاب في الأماكن العامة يجب أن تقوم على قاعدتين رئيستين. الأولى: أننا لا نمنع النقاب بوصفه "زيًّا"، لأن الأزياء حرية شخصية. ولا بوصفه "علامة دينية" لأن حرية الاعتقاد مكفولة في كافة المجتمعات المتحضرة...".


صرخ رجل من المجموعة "علماني ابن كلب"، فجاوبه آخر "فليكشفوا عن وجوههم القبيحة، ما حياهم الله"، قاطعهم الشيخ وائل رغم انتشائه بأصوات المشاركة "لسه، اسمعوا، اسمعوا ... ". عدل من جلسته على حقيبته الفاخرة وقرأ "...إنما نناقش أمر منع النقاب في الأماكن العامة، بوصفه إشارة شديدة الدلالة ووثيقة الصلة بفئة من البشر أصحاب تركيبة فكرية ونفسية خطيرة، نجحوا في احتكار الصورة الذهنية للنقاب عبر ممارسات امتدت زمنًا وكمًّا وكيفًا بطريقة يصعب معها الاطمئنان إلى هذا الشعار أو هذه الإشارة..."، لم يتمالك أحد شباب المجموعة نفسه من الصراخ "خسئت يا معرّص يا ديوث"، نهره أحد الشيوخ معاتبًا "معنا نساء يا شيخ ".. رد محاججًا "وعليهم من الله ما يستحقون"، جاوبه الشيخ نفسه "من الله، يا شيخ، من الله".. قاطع الشيخ وائل النقاش الدائر قبل أن يستفحل فينشغلوا بجواز السب من عدمه، عاتب الرجل الرافض للمسبة "من الله! طب اسمع اللطخ بيقول لك إيه..."..  مستكملًا القراءة من الآي باد "...لا يعني ذلك أن النقاب شارة سيئة، ولا أن كل من يرتدينه ينتمين إلى هذه الفئة من البشر، ولا حاجة بنا لمناقشة موقفه في الدين، فهو محل خلاف كبير، ومن يراه قربةً إلى الله فأمره بينه وبين الله.."، رفع صوته "برئنا إلى الله.."، كانت طبقة صرخته كفيلة ببث القشعريرة في نفوس المحيطين فانبرى أبعدُهم عن الحلقة وهو شاب بقميص وبنطلون متواضعين ولحية خفيفة، اقترب من مركز الحلقة مفسحًا بيديه من يقابله مرددًا بعصبية "كله من هذه الملعونة النايبة بمجلس النواب خزاها الله هي السبب.."، سمعت البنت من موضعها امرأة من المجموعة تتساءل بصوت ضعيف جعله النقاب أكثر ضعفًا "مين دي الله يخزيها؟" لوهلة ظنت البنت أن السؤال موجه إليها، فاحتمت بالطفل، لكن رجلًا من المجموعة أنقذها حين تولى الإجابة "نايبة من النوايب اللي ابتلتنا بيها الانتخابات والديمقراطية .. عليها من الله ما تستحق.. بتطالب بقانون لمنع النقاب". وجدت البنت نفسها مهتمة بمتابعة النقاش، حين ظنت لوهلة أنها جزء منه، اقتربت خطوة مقاومة يدَ الطفل الذي حاول منعها، أفلتت منه واقتربت من مركز الحلقة، كانت منتقبة أخرى تصرخ "من كُتر الفُجر مش قادرين يستحملوا الطهر بينهم"، تعالت أصوات متداخلة "لا حول ولا قوة إلا بالله، حسبي الله فيهم".


الشيخ وائل المنتشي بجرعة المتابعة التي دعمت موقفه وقف مرددًا "اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه" فانطلقت الأصوات مؤمنة "آمين".. رمقهم برضا وأكمل "وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه" جاوبته الأصوات "آمين".. رمق الشابَ الذي استشعر الحياء من الألفاظ الخارجة منذ قليل "اللهم اهدِ قومي ..فإنهم لا يعلمون..".. أمن الجميع وردد الشاب المقصود بخجل "الله يسامحك".. اندفعت امرأة تخطب في الفراغ "بالله عليكم ناقشوا السفور والفجور والتبرج والكاسيات العاريات.." حملقت في الأعين المحيطة "ألا يتقون الله في نساء المسلمين!".. يبدو أن الحماسة أخذتها بعيدًا إذ قرر الشيخ مصعب ردعها، التفت ناحيتها وألقاها بنظرة أسكتتها، ثم خاطبها مستنكرًا بجفاف "الله! بتقولي الله؟ وهل يعرف هؤلاء الله... إنتي أصلك طيبة" فسكتت.


من بين السواد أفسحت لنفسها فتاةٌ ترتدي بلوزة سماوية رشيقة تنساب على بنطلون جينز يقف أزرقه على حد الأسود، قالت موضحة "يا ستّي، هما مش بيقولوا المنتقبات وحشين، بيقولوا النقاب بقى وسيلة لأصحاب فكر إرهابي ومخربين، وبما إنه مش فريضة، بالكتير مكرمة أو فضيلة، فمافيش مانع نحدّد انتشاره في الأماكن العامة إذا كانت دي مصلحة المجتمع ...".. قاطعها الشيخ مصعب هادرًا "مجتمع! عليه العوض .." لاحظت الطفلة أن الفتاة لا تضع نقابًا، رأسها مغطى بحجاب ملون متناسق مع زيها الرقيق. حوّل الشيخ مصعب حديثه إلى رجل يقف بقرب الفتاة "قلنا لك من الأول يا شيخ عبصمد التعليم هيفسد دماغها، قلت اطلعوا منها، آدي النتيجة، قال النقاب مش فريضة قال!".. بدت على وجه الشيخ عبد الصمد خلطة غريبة من الانفعالات، كأنه يصارع مائة عفريت في صدره ويمسك نفسه عن ارتكاب جريمة. راقبته الطفلة فاحتارت في أمره، شعرت كأن بحرًا هائجًا حُبس في زجاجة شفافة.. قطعت الفتاة الصمت "يا جوز خالتي، النقاب في أفضل أحواله الشرعية فضيلة، ولا ذنب على تارك فضيلة.." قبل أن تستوعب الطفلة معنى الجملة وما تضمنتها من مصطلحات هجمت امرأة من المجموعة فأمسكت ذات البلوزة السماوية من كتفيها وهي تردد في ميوعة "قالوا للقردة اتبرقعي، قالت ده وش واخد ع الفضيحة". انتظرت الطفلة أن تصفعها الفتاةُ بالكف على وجهها، لكنها خلصت كتفيها من ذراعي المرأة بهدوء وقالت لمن تخاطبه بزوج خالتها "يا جوز خالتي ماحدش قال اقلعي النقاب، دي دعوة لمناقشة تنظيم استخدامه في الأماكن العامة، ودا مطلوب في ظل ظروف المجتمع الحالية".. بدا أن هناك كلمات بعينها تغيظ الشيخ مصعب ومنها المجتمع، لأنه أرغى وأزبد وهو ينقل عينيه بين الفتاة وأبيها "تاني هتقول لي مجتمع... والله، لولا زعل أبوكي لكان لي معاكي شغل تاني..".. كجملٍ هائج دار دورة كاملة مستطلعًا في ارتياب وجوه المحيطين ثم عاد بعينيه إلى الفتاة "والكلام دا إن شاء الله، دايره تقوليه وسط حريمنا؟".. لم يمهل والد الفتاة ابنته فرصة للرد، سحبها من يديها "تعالي هنا جنبي يا عزة، خلاص يا شيخ مصعب، عزة لا بتروح لحريمكم ولا بيجولها".. عادت عزة إلى وقفتها إلى جوار أبيها، تأملتها الطفلة مبتسمةً وهي تتساءل عن سرّ اختلافها عن الأخريات.


قفز رجل من المجموعة فتوسط الحلقة محتلًا الفراغ الذي خلفته عزة بانسحابها احترامًا لرغبة أبيها. انطلق يخطب للفراغ "هؤلاء أقل من البهيمة.." أنصت له الجميع بين متشكك في مقصد الرجل، وراغب في إنهاء موقف الخلاف والانشغال بغيره، ومتلهف للعودة إلى أمر العلماني المجرم.. استكمل الخطيب حديثه فبدا أنه يصل ما انقطع من حكاية الشيخ وائل "طيب ما هو بالعقل كده، فيه رجاله بتلبس لباس الظباط والشرطه وبتعمل عمليات تفجيريه، يعني بكده نؤمر بمنع لبس الظباط والشرطه؟"، ترددت أصوات "لا طبعًا".. فاستكمل "..وكمان فيه رجّاله بتلبس لبس نسوان وبتسرق، معنى كده إننا نمنع النساء إنها تلبس!" .."مثلًا يعني!" جاوبه رجل من المجموعة ضاحكًا في سخرية فأضاف آخر "والنسوان تمشي ملط في الشارع؟ " ضحك صاحب الخطبة ضحكة قصيرة واستكمل قبل أن يحتل أحدهم مكانه "مش معقول برضه.. العيب في تفكير الناس المريضه اللي شايفه إن التخلف والرجعيه سببهم النقاب".. قطع الشيخ مصعب عليه شهوة الخطابة حين هتف في مكر عرفوه عنه مستعيدًا الأضواء على ابنه الشيخ وائل "لا فض فوك يا شيخ .. دول ولاد كلب.. خلينا بس نرجع لابن الجزمه اللي بيقول عليه الشيخ وائل". ربت على كتف ابنه كمن يستعرض بضاعة ليشهيها في أعين الزبائن "حلاوة الشيخ وائل ابني إنه رغم علامه في مدارس ولاد الرفضي دول، إلا إنه ما شاء الله لم يخرج عن الفكر السليم المنضبط ".. غمزته امرأة من المجموعة ملونة صوتها بين الجد والهزل "وغاوي قراية وبيكتب شعر يااا...يا بوو.. الشيخ وائل".. لم يفلح الشيخ مصعب في إخفاء غنة انكسار وحرج في صوته ووجهه وهو يردد جملته التي حفظوها عنه "أيوه، دي بذرة الله لا يسامحها بقى أمه..."، التفت لوائل مستعيدًا نبرة التاجر المستعرض بضاعته "بارك الله فيك يا شيخ وائل، تربيتي...بيقول إيه بقى يا سيدي ابن الكلب ده؟".


ربما ورث وائل عن أمه جينات حب الأدب والشعر كما ألمحت المرأة، لكن المقطوع به أنه ورث عن أبيه جينات الاستعراض التي سرعان ما تألقت في مظهره وهو يجاوب أباه الذي لم يفكر مثلًا في منحه مجلسه المريح على حقيبته الفاخرة "دي مقالة طويلة يا أبي، ييجي 3 آلاف كلمة". لا يرى الشيخ مصعب في وائل إلا الجميل أو ربما لا يسلط الضوء إلا عليه .."وما شاء الله قريت دا كله يا شيخ وائل؟" قالها ملمحًا إلى نباهة الولد. وإيمانًا منه بمنطق تفوق التلميذ على أستاذه، يزايد وائل كلما أمكنه على أبيه مما يوقع الأخير في حيرة أحيانًا، يظن معها أن الولد غبي، قبل أن يعيده يقينه إلى أن ثمة بلا شك حكمة خفية في تلك التصرفات أو الردود التي تبدو على عكس ما يظنها فتسبب له إحراجًا، فبدلًا من أن يؤكد وائل أنه قرأ ثلاثة آلاف كلمة في دقائق واستوعبها؛ صاح مبددًا بذرة الاندهاش التي أراد الوالد زرعها في قلوب المحيطين "هو أنا لسه هقرا الكلام ده كله".. وقبل أن تموت البذرة تمامًا أردف مستعيدًا الدهشة مستعرضًا قدرته على فهم الكامن وراء الإشارات "المكتوب باين من عنوانه يا اخوان، من الفقرة اللي مختارها الواطي ع الفيسبوك بتاعه، أعلن عن هويته وانفضح". فكر الوالد سريعًا في طريقة يعيد بها بذرته إلى طينتها فقال "ما شاء الله نبيه، مش محتاج يقرا عشان يفهم". قاطعه وائل ".. اسمع، اسمع أنا هادخل أربيه ابن اللئام ده ".. ارتفعت أصوات مهمهمة بالرضا والارتياح، تحلق من يستطيع حول وائل، الذي أمسك بالآي باد مستعدًا للكتابة. كانت امرأة من المجموعة تصرخ في زهق وهي تزاحم الآخرين "زيحي شوية يا شيخة، مش شايفه الشيخ وائل بيكتب إيه" جاوبتها أخرى في غيظ "سبحان الله فيكي يا شيخة، اتقي الله، مش ناقص غير تزاحمي الرجال!" مشيرة بفخر نحو الشيخ مصعب والشيخ وائل على التوالي "دا زوجي ودا ابني... " منذرة في بلاغة المرأة بعدم تجاوز حدودها. صرخ رجل من المجموعة مستغلًا الموقف ليحظى بمكان خلف كتفي الشيخ وائل مباشرة يمكّنه من المشاهدة عن كثب "اهدأن يا نساء... يا شيخ وائل، سمّعنا ما تكتب... عشان النساء هنا مش هيعرفوا يقرأوا من بعيد" استقر الرجل خلف كتفي الشيخ وائل مباشرة، انتشى وائل بالتزاحم على بضاعته، وانعكست نشوته على صوته وجلسته واستعذب الكلام والتفصيل "أنا باكتب له ع الفيس بتاعه، وعلى الله بس يكون موجود ويرد، نتسلى شويه... اسمعوا اسمعوا أنا كتبت له إيه: أنصحك تمشى في الشارع حافي لأنهم مسكوا قاتل لابس جزمة، يابن الجزمة".. أطربته ضحكاتهم فضحك، ثم أكمل "أنصحك تمشي حافي، وصلتْ والّا أشتم كمان؟" علت أصوات الضحك والاستحسان، وهتف رجل من المجموعة "الله عليك، عندما تستخدم أساليبهم في الحوار ولكن بهدف شرعي... "، وجاوبه آخر متسائلًا في جدية "بس تظن هذا الزنديق سيَفهم المثال المعقد اللي ضربته يا شيخ وائل؟".. مرر هذا السؤال إلى مزاج الشيخ وائل جرعة زائدة من الانتشاء فرمق صاحبه بنظرة دالة "يفهم ولا إن شا الله عنه ما وعي يفهم، نفهّمه بالمقارع والقباقيب".. تجاوزت أصوات الضحك طبقاتها المعتادة وتناثرت بينها كلمات الاستحسان، قام الرجال يتعانقون والنساء يتعانقن ويتبادلن كلمات الامتنان لصاحب الفضل والمنة أن نصرهم على العلماني الحقير وأيدهم بالشيخ وائل الخطير. 


********************** 


لا ننسى أنه بإمكاننا استخدام منطق الحواديت لنترك هذا المكان وننتقل إلى آخر، كما أننا بالأساس في حلم. صحيح أن الطفل بدأ يشك إن كان في حلمه أم أنه سقط في حلم آخر.. لكننا سنستغل لحظة تشككه هذه ونتبع صوت إشعار الفيسبوك الذي انطلق منذرًا بإضافة تعليق على بوست السيد (س)، فننتقل عبر الطفل والطفلة إلى حيث يجلس هناك أمام المقهى.


سحب السيد (س) رشفة التذ لها من كوب الشاي، ثم وضعه على طرف الطاولة وراح يدق بأصابعه على لوحة الكي بورد، متمتمًا بما يكتبه "فقط لو حضرتك ابن جزمة فسوف تظن كل الناس مثلك". لكزت الطفلةُ الطفل بكوعها بينما هما ملتصقان خلف السيد س، وهمست "أنا حاسه إنه بيكلم الناس اللي هناك دول" .. ثم سألته السؤال الذي بات يخشاه "هو ده من قرايبك؟" .. خطا الطفل خطوة، نظر إلى وجه السيد س ثم عاد إلى الطفلة "دا شبه عمو صاحب بابا.. مش فاكر اسمه"، قبل أن يضيف في إشارة إلى أن حيرته لم تذب "بس مش عارف".. طلبت منه الطفلة - لكي تختبر حدسها- أن يذهب هو إلى ناحية حلقة الأسود والأبيض –هكذا وصفتها- على أن تبقى هي هنا بالقرب من المقهى الملون.."شكلهم كده بيلعبوا لعبة"، أجاب الطفل مستشعرًا الخوف "طب ماتروحي إنتي هناك..".. نظرت إليه باستعطاف "إنت عارف، مش باحب الوشوش المستخبية".. أمام منطقها لم يملك الطفل سوى التجاوب "ماشي، لما نشوف آخرة دلعك ده". رغم تقديرها لنبله لم تنجح في كبح غضبها من اتهامه لها بالدلع "دلعي؟! مش أنت اللي دخلتنا الحلم ده؟".. عقدت ذراعيها على صدرها وضربت الأرض بقدمها "ياللا خرجني من هنا حالًا لو سمحت".. احتار الطفل الذي لم يعد يعرف إن كان بالفعل في حلمه أم أن الأمر خرج عن السيطرة، فتحرك بلا كلمة قاصدًا الحلقة .. التفت برأسه إلى البنت "خدي بالك من نفسك".


عند وصوله كان الشيخ وائل يرفع عينيه عن الآي باد، صرخ "ياااا بن الحرام".. جاوبه أحد الرجال في فزع "خير! هه! فيه إيه؟" ردد الشيخ وائل ذاهلًا عن سؤال الرجل "زنديق زنديق يعني".. تعالت صيحات الرجال متسائلين "عمل إيه؟".. انتبه الشيخ وائل "هه، لا... ولا حاجه، أظنه بيشتم، بس بيقول لي حضرتك!".. "ابن صهاينة صحيح" ارتفع صوت مجاور لأذن الشيخ وائل فصرخ "وأنا هاطلّع ديــن..." قبل أن يكمل الكلمة كانت الفكرة قد اتضحت؛ لقد أهانه الرجل.. تعرضت له إحدى الواقفات بصوت كله فضول "شتمك! قال لك إيه؟" لكنها قضمت الكلام حين لكزها أحدهم.. استعاد الشيخ وائل موقفه الاستعراضي "يستجري! أنا هاكتب له أفحمه: لأ، اللى عايز الحريم تخلع النقاب هو اللى ابن جزمة.. زى حضرتك، انتهى الدرس يا جزمة".. صاح أحدهم منتشيًا "صح، صح الصح، اللي عايز الحريم تخلع النقاب هو اللي ابن جزمة.." وسرعان ما كسا الفكرة بكسوة دينية "تلك حدود الله يا أخي" ألقاها بعظمة وثبات ثم انتقل منها إلى فضوله "ها، رَد عليك؟" فجاوبه الشيخ وائل بتعاظم "ولا هيرد .. بس شفت، أنا ألجمته، شتمته وقلت له حضرتك... زي ما قال لي" .. منحه الرجل طلقة عظمة فارغة أخيرة "أيوه، أنت أخزيته".. لم يكن له نصيب الاستمتاع بها إذ ارتفع صوت إشعار الفيسبوك فانتبه الجميع منتظرين فحوى الرسالة. من هول صدمته بعد أن قرأ رسالة السيد (س) هامسًا "حضرتك مش بس محتاج تتربّى، إنما محتاج تفهم وتقرأ، فلا درس ينفع معك إن لم تقرأ".. ردد الشيخ وائل بصوت سمعه القريبون منه "أقرأ إيه ياحمار إنت!" ثم أضاف منفعلًا بصوت سمعه الجميع "أهو إنت اللي حمار...".. لم تفوت المرأة الساخرة الفرصة رغم اللكزات التي تأكلها في كل مرة، ارتفع صوتها مختلطًا بالضحك "هو قال لك يا حمار؟!".. لم يملك الشيخ وائل ردًّا لكنه بدا منفعلًا وهو يحاول ترتيب الأصوات التي خرجت من فمه قبل أن تتحول لكلمات "ها، إيه؟ لأ، هو يقدر!! دا قال لي اقرأ.. قال اقرأ قال!.. " قفز الشيخ مصعب ملقيًا طوق النجاة لابنه "قصده تقرا كتب العلمانية والإلحاد .. احنا ما بنقراش غير كتب مطهرة".. وفي أداء خطابي فاقع رفع صوته للفراغ "ياااا .. نجس" نطقها مشكلة عربية فصيحة ضخت في عروق الشيخ وائل بعض الشجاعة فراح يكتب بانفعال على الآي باد وهو يقرأ للمحيطين "ما تروح تمنع الفسوق والفُجر الأول، ولمّا تقدر تمنعه ياااا بجم ...ابقى فكر فى منع النقاب، أنت ديوث باين عليك".. أعقب شتيمته الأخيرة بضحكة مجلجلة كأنما أزاح بها همًّا جثم على كتفيه لزمن فأثقله.. جاوبته أصوات الضحك استحسانًا من المحيطين، ودعمه واحد منهم وهو يسحب الكلمات من بين الضحك "أيوه والله شكله كده .....ديوث ....". وأضاف آخر في محاولة سجع واضحة "تلاقيه بيكتب بعيد عن الناس، وفي ايده الخمره في كاس، وأمامه المَزّه، وعلى يمينه المُزه" .. انتظر أن يطرب سجعُه الناس فيطروه إلا أن الشيخ مصعب نكزه بعنف في صدره وهدر في وجهه "الله يخزيك، ما تستحيش؟".. لم يكن الارتباك من نصيب الشاب فحسب، فقد حار الجميع في سر غضبة الشيخ مصعب، ما أراد الشاب سوى التجويد، ولكن من يباري الشيخ مصعب الذي لحق الموجة قبل أن تنحدر وصرخ موضحًا "قل على يساره .. على يساره يا شيخ"، "هي إيه دي اللي على يساره يا شيخ مصعب؟" سأله أحدهم فخفف من صوته قليلًا وارتدى عباءة الواعظ الفاهم "بيقول لك الخمره في ايده، والعاهره على يمينه، حاشا لله أن يكون اليمين مكان العاهرات.. ".. نجحت الفكرة حين قال أحدهم "اليمين بس للبرره .. أعوذ بالله" فارتفع هدير استحسان المحيطين لعرض الشيخ مصعب. وصل الهدير إلى الطفلة في وقفتها قرب السيد س فازداد خوفها، ركضت من مكانها إلى أن وصلت قرب الطفل، سحبته من يده نحو المقهى "أنا عايزه أخرج من هنا حالًا".. "ليه؟"، "دول بيشتموا .. عيب، عيب"، "طيب استني بس نفهم اللي بيحصل"، "أنا مش عاوزه الحلم ده".. "طيب خلاص، ما تشديش، خلاص .. هاشوف".. ركض الطفل في أرجاء المكان، وركضت الطفلة خلفه، اجتازا الجماعات والثنائيات واصطدما ببعض المقنعين والمقنعات، لم يلتفتا للشتائم ولا لمن طاردهما وسبقاه، وجدا بوابة في جانب السور فركضا خارجين منها.


رواية "الغميضة" للكاتب وليد علاء الدين، والصادرة عن دار الشروق 2020


author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات