"مرتان يحدث أن تتغير نظرتي إلى جهاز التلفزيون وتقييمي لأهميته. كانت المرتان تدوران في فلك التجربة الشخصية".. فيما كنت أعيد قراءة هذه المقدمة المشوقة التي بدأ بها عمر طاهر قصة "سعد لبيب" صنايعي تلفزيون مصر كما أسماه، والتي عاد ليفصلها بعد ذلك في منتصف المقال، تبادر إلى ذهني تغير نظرتي أنا أيضاً إلى جهاز التلفزيون وتقييمي لأهميته؛ مرة حينما وجدت منذ بضع سنوات رسالة كنت قد كتبتها لوالدي في غربته وأنا في التاسعة من عمري؛ وجاء في إحدى أسطرها: "شكراً يا أبي على التلفزيون الألوان!"، والمرة الثانية حين قرأت ما كتبه عمر طاهر في مقاله "سعد لبيب.. صنايعي تلفزيون مصر".
صحيح أن في مصر ملايين من الأشياء والأماكن والشخوص والمواقف التي تستحق الكتابة عنها، لكن من أي وجهة يكتب عنها هذا الكاتب أو ذاك؟ من أي زاوية يراها؟
قال هيرودوت: سأتكلم عن مصر، ففي مصر من الأشياء العجيبة ما لا يوجد في بلد آخر..
تكلم الكثيرون عن مصر، عن شعبها، و نيلها، حكامها، أرضها، تاريخها، أبطالها، لكن قليلون هم من يهتمون بالحديث عن هوى مصر وقلبها.
جلس هذا الكتاب "صنايعية مصر" الصادر عن دار الكرمة، في جزئه الأول، في مكتبتي قرابة شهرين لم يحن له الدور بعد، كانت له في مخيلتي حالة مزاجية خاصة أتحين أن تحيط بي لأبدأ في قراءته.
كنت بين الحين والآخر أقلبه وأتفحص غلافه البسيط بعمق ما، الشعبي برقي ما، كان يحمل خليطاً من النكهات والروائح والأصوات والمشاهد الحية فترتسم في عقلي علامات استفهام جديدة تنتظر دورها علها تتحول يوماً من اعوجاج الاستفهام إلى استقامة التعجب!
وكعادة عمر طاهر، لا مكان للمقدمات، فما قيمة تشريفة المقدمات إن كنت ستجد نفسك صاحب بيت عند أول كرسي يقابلك في كتابه؟!
استخدم الكاتب تقنية خاصة جداً في الكتابة؛ تقنية يقسم بها مقاله إلى أقسام تحمل أرقاماً، في كثير من الأحيان ليس محتواها مسلسلاً تسلسل أرقامها، فهو يعطيك نفحة من فكرة في رأسه ثم عند نهاية هذا القسم المُرقم يترك بداخل عقلك سؤالاً يبقيك متنبهاً ليبدأ قسماً جديداً برقم جديد لتسافر معه، إلى أن يعيدك فجأة لذلك السؤال القابع في عقلك من القسم السابق فيمنحك إجابته بشكل شيق متدفق أنيق، لتخرج من قراءة المقال مستمتعاً حاضر الذهن والروح..
والغريب في الأمر أنك تشعر وأنت تقرأ الكتاب _أياً كان عمرك_ أنه قد وضع يده على دفتر التساؤلات المتراكمة في عقلك منذ كنت طفلاً و بدأ بشكل تلقائي في الإجابة عنها مانحاً إياك شعوراً جديداً بنشوى الحصول على متعة الذكريات لكنها هذه المرة مليئة بالإجابات عوضاً عن الأسئلة!
استطاع هذا الكتاب أن يحمي المساحة الأضخم من ذكريات المصريين الحياتية خلال القرن الماضي التي كانت تبدو بالنسبة لهم في حينها أحداثاً عابرة، يحميها من التلاشي والانقراض، و أن يقف ليُحَمِض كل لقطة في فيلم تلك الذكريات مانحاً إياها خلوداً ما يشبه نقوش من سبقوه من الأجداد..
إن جاز لنا أن نطلق على كتاب "صنايعية مصر" كتاب تاريخ، فهو إذاً لون جديد من كتب التاريخ تمتزج فيه الحقيقة بالخيال بالحب بالسعادة بالأسى بالرائحة بالطعم بسلطنة الصوت ببلاغة الصمت نستطيع أن نسميه "تاريخ حياة الذكريات" أو "ذكريات حياة التاريخ".
من غزالة شركة كورونا التي حيرت جموع المصريين إلى طقم ياسين للعرائس إلى الترجمة التي طبعت في معامل أنيس عبيد إلى برج القاهرة إلى كولونيا ٥٥٥ التي شاركت المصريين في السراء والضراء إلى صنايعي السد العالي إلى صوت النقشبندي إلى سر صنعة العبور إلى مطبخ أبلة نظيرة إلى كلوت بك مؤسس الطب في عموم مصر، إلى الكثير من الرحلات الأخرى المدهشة في حياة لفيف من صناع بهجة مصر على مدار القرن الماضي، أخذنا الكتاب.
"أثناء العمل في السد زاره الكاتب الصحفي كمال القلش، بناءً على موعد لإجراء حوار صحفي، كتب القلش أن الموعد كان في السادسة صباحاً، وذهب لمقابلته في محطة الكهرباء، فقالوا له كان هنا وذهب إلى الخلاطة، فتوجه إلى الخلاطة، فقالوا له كان هنا وذهب إلى جسم السد، فذهب إلى هناك، فقالوا له ستجده في الأنفاق، وفي الأنفاق قالوا له توجه منذ قليل إلى المحاجر. قال القلش: "في النهاية لم ألحق به". ثم قابله مصادفة، قال له سليمان: "عايزين مني أنا إيه؟ لماذا لا تكفون عن نشر صوري؟ تكلم مع العمال والناس الشقيانة".
بشكل تلقائي تذكرت صوت الخال الأبنودي في رسائل "الأسطى حراجي القط العامل بالسد العالي" وقلت في نفسي، ها قد تذكرهم أحد بعدك يا سيدي، نم قرير العين!
على هامش قصة كل صنايعي، تجد قصص نجاح لصنايعية آخرين لا يقلون أهمية عن أصحاب القصص، وكأن هذه الهوامش تقول إن في مصر صنايعية بعدد سنابل القمح لكن قد تعوزنا أحيانا المعلومات والظروف الكافية التي نستطيع من خلالها كتابة سيرة متكاملة عنهم.
مهما كانت درجة معرفتك بشخصية أو بأخرى، لا تخلو قصة في هذا الكتاب من مفاجأة تجعلك ترفع حاجبيك قائلاً:"معقولة؟!"، ثم تنزلهما سريعاً استعداداً للمزيد من المتعة.
"عندما تم افتتاح المجمع عام 1951 كان تحفة يحكي عنها الكاتب أحمد فرهود قائلاً: "أعتبر العمل في المجمع نوعاً من الوجاهة الاجتماعية، المنخرط فيه لا بد أن يكون متأنقاً، ذلك أنه ذاهب إلى مكان شديد الاحترام، وسيجلس إلى مكتب في غرفة مستقلة، معه زميل أو زميلان على الأكثر، وإذا طلب شاياً أو قهوة فإن النادل سيقدم له المطلوب وهو يرتدي جاكتة بيضاء وبنطالاً أسود. عمال النظافة لا يتوقفون عن العمل والسعادة، يرتدون بزات صفراء، ودورات المياه، شأنها شأن الممرات، بالغة النظافة، مما يدفع المرء للتصرف بتحضر".
في لحظة ما وأنا أقرأ هذه الكلمات التي وصفت مجمع التحرير حال إنشائه، داهمتني صورة سفينة تايتانيك؛ تلك الأسطورة الغارقة التي كانت في أذهاننا مجرد قطع من المعادن الصدأة التي أكلتها مياه البحر، إلى أن جاء فيلم "تيتانيك" ليحيلها في مخيلاتنا إلى حلم استثنائي خالد بالصوت والصورة والألوان ونبض الجمال! هكذا بالضبط فعل عمر طاهر بكنوز الذكريات المدفونة في هذا الكتاب.
"يعرف بديع خيري أن لمصر "حبايب"، قد ينساهم البعض في الزحام دون قصد، أو يتعمد البعض أن يتجاهلهم لحسابات ما. كانت وصية خيري ألا نسمح لهؤلاء الحبايب أن يضيعوا من ذاكرتنا أو بين أيدينا، وشرح سبب أهمية الحفاظ عليهم في متن الرسالة قائلاً: مصر يا أم العجايب..شعبك أصيل والخصم عايب..خلي بالك من الحبايب..دول أنصار القضية".
يبدو أن وصية بديع خيري قد اهتز لها قلب عمر طاهر وأبى إلا أن يكون حارسها..
صنايعية مصر.. كتابٌ يقرؤه المثقف فيجد فيه ما يخصه، ويقرؤه بائع الفول فيجد فيه ما يثلج صدره، ويقرؤه العامل فيصادف فيه ذكرى تختلج في نفسه، ويقرؤه أستاذ الجامعة فيقابل نكهة صباه.
نُشر ذلك المقال للمرة الأولى في العدد 54 من مجلة "عالم الكتاب"
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب