يوسف الشريف
"لقد استخدم داوود عبد السيد موهبته لكي يفهم العالم والإنسان، ففهمنا نحن العالم والإنسان أفضل، وهذا هو أيضاً سر كبار المبدعين علي مر العصور".. بهذه الكلمات لخص الكاتب والناقد محمود عبد الشكور، مسيرة المخرج الكبير داوود عبد السيد، في كتابه الأحدث "داوود عبد السيد.. سيرة سينمائية"، الصادر عن دار ريشة للنشر.
إن سينما داوود عبد السيد، تعيد تشكيل المفاهيم الإنسانية من النقطة صفر، ففي أفلامه تستطيع أن تتعرف على حقيقة الإنسان على هذه الأرض، وما هو دور الإنسان في الوجود؟ وكيف ينظر الإنسان إلى غرائزه؟ وكيف يتعامل مع مجتمعه والمحيطون به وقبل كل ذلك كيف يتعامل مع نفسه الآمرة بالسوء؟!
وهي سينما تطرح الكثير والكثير من الأسئلة ببساطة، فمثلاً في واحدة من أعظم أفلامه "أرض الخوف" نستطيع أن نكتشف الكثير من المعاني الفلسفية، مثل علاقة الإنسان بالإله وفكرة هبوط الإنسان على الأرض واصطدامه بالخير والشر وكيف ينظر الإنسان إلى غريزة الجنس والبقاء، وأيضاً نستطيع أن نرى مفاهيم سياسية، مثل علاقة الفرد بالسلطة، وبعض من سياسات الدول، وهل الدول يمكن أن تتبني ولو تجار المخدرات من أجل تنفيذ سياستها؟ وكيف أثرت النكسة في نفوس المصريين، ولكن بالرغم من كل هذا فإن المشاهد الذي يريد أن يشاهد فيلم لمجرد التسلية، سيعجبه الفيلم كثيراً. والمقصود من كلامي أن عبقرية سينما داوود عبد السيد تتمثل بقوة في أنه قادر على أن يطرح كل الأسئلة بطريقة في منتهي البساطة.
ومن أكبر الأسئلة التي يطرحها داوود عبد السيد ويناقشها في أفلامه، هو سؤال الثورة؟ على أي شيء يجب أن يثور الإنسان؟! وحين تتأمل في الشخصيات التي يكتبها بحرفية شديدة، ويرسمها لك ترى أن الإنسان بحاجة شديدة إلي أن يقيم الثورة علي نفسه أولاً، هذا إذا أراد التغيير بحق، فالثورة الحقيقية تنبع من داخل الإنسان وتتفجر، فتحطم القيود سواء التي يفرضها العالم والمجتمع علي الإنسان أو تلك التي يفرضها الإنسان على نفسه، فالإنسان لكي يشعر بإنسانيته ويكون أكثر تأثيراً بحاجة إلي التخلص من خوفه، الذي يتم زرعه في الإنسان منذ ولادته، وبحاجة إلي إعمال عقله الذي يحاول العالم أن يقهره، ومن ثم يتمرد علي الجهل والمعتقدات والتعاليم المزيفة التي تحيط به، ويقول محمود عبد الشكور في كتابه ليؤكد تلك الحقيقة:
"لكنك في النهاية تشعر بأهمية أن نحاول، وأن نكتشف أننا قادرون، وأن معركتنا مع الخوف في داخلنا، وليست مع الشخص الذي يهددنا، وأننا لا يمكن أن نكبل بالقيود الخارجية إلا إذا استسلمنا لها، لأننا أصلاً مكبلون بقيود الخوف أو الجهل أو التقاليد.. إلخ"
هكذا فإن سينما داوود عبد السيد لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم تقسيمها، فلكي تغوص وتتعمق وتستمتع وتكتشف عالم داوود عبد السيد لا بد وأن تنظر إلى أعماله كأنها عمل واحد، وإلى كل شخصياته كأنهم مرسومين على لوحة فنية واحدة، منذ فيلمه الأول "الصعاليك" وحتى فيلمه الأخير "قدرات غير عادية"، تجد سيمات وأسئلة يطرحها عليك داوود عبد السيد باستمرار باحثاً عن إجابة ليتركك أنت الآخر تتساءل وتتفاعل معه، لتحاولوا رسم صورة للإنسان في وضعه مع العالم الكبير، ومع مجتمعه ووطنه، ومع نفسه.
إن حديثي عن سينما داوود عبد السيد لا يمكن أن يسعه مقال واحد، فإذا سألتك من هم أفضل خمسة مخرجين جاءوا في تاريخ السينما المصرية والعربية؟ لا بد وأن تذكر داوود عبد السيد، فهو من المخرجين القلائل في العالم الذين استطاعوا بناء عالمهم ورسم لوحتهم الفنية الخاصة جداً بأقل عدد من الأفلام، فإذا تحدثنا مثلا عن يوسف شاهين أو صلاح أبو سيف أو محمد خان سنجدهم جميعاً قد أبدعوا ورسموا عالمهم وشكلوه في عدد كبير من الأفلام، يتخطى الثلاثين فيلما، في حين أن المخرج الذي نحن بصدد الحديث عنه الآن ترك آثار لا يمكن أن تمحي من تاريخ ليس فقط ذاكرة السينما المصرية والعربية بل أيضاً السينما الإنسانية العالمية، عن طريق تسع أفلام روائية طويلة فقط.
ولكن في نهاية حديثي لا بد وأن أشكر الكاتب محمود عبد الشكور لأنه من التفت ورأى ولاحظ أن أحداً لم يكتب من قبل عن فيلسوف السينما وواحد من أعظم مخرجي السينما داوود عبد السيد، فقدم إلينا صورة أكثر قربا ووضوحا لداوود عبد السيد وعالمه، ولذلك أنصح كل من يريد الاقتراب من هذا العالم الفريد، وإلى كل من يريد الغوص في أعماق وعوالم سينما داوود عبد السيد أن يقرئوا هذا الكتاب المهم البديع، الذي يحلل بصدق واستفاضة جماليات فن السينما ولا سيما.. سينما داوود عبد السيد بالتحديد.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب