إسراء إبراهيم
يعيش الإنسان في هذا العالم في معاناة دائمة، لكن حين تجتمع عليك ويلات الحرب والانفلات الأمني وقسوة المرض النفسي، تصبح الفاجعة أكبر، وتصبح قدرتك على البقاء أشبه بمهمة مستحيلة، وهي ما نجحت الكاتبة العراقية ميسلون فاخر، في نقلها عبر روايتها الأحدث "الكلب الأسود"، والتي تحكي معاناة بطلتها "جمان" من مرض الاكتئاب بعد حادثة خطف مريعة.
ترصد الرواية الصادرة حديثا عن دار سطور للنشر، معاناة أهل العراق بعد الغزو الأمريكي له، وما تبعها من انفلات أمني، في فترة أنهكت أهله وتسببت لهم في جروح لن يمحوها الزمن مهما طالت سنواته، لتبقى شاهدة على تاريخ لوث قلوب العراقيين ودمائهم، وانتهكت أحلام البسطاء وإنسانيتهم.
صراع الاكتئاب
"الكلب الأسود" هو وصف أطلقه السياسي البريطاني الراحل ونستون تشرشل، على نوبات الاكتئاب التي كان يعاني منه، واستعانت به الكاتبة كعتبة للنص في روايتها لتعبر عن الحالة التي تمكنت من "جُمان" بطلة الحكاية، التي ظلت تقاوم كلبها الأسود وحربها المستمرة للبقاء ومواجهتها للاكتئاب.
يضرب "الكلب الأسود" ضحيته باستمرار حتى أنه تمكن منها في أغلب الوقت رغم محاولاتها الفرار منه لكن كل محاولاتها كانت تبوء بالفشل أمام شراسته في التحكم بدماغها وعقلها وسيطرته عليه، لتبقى أسيرة سطوته وتحت رحمة الاكتئاب لسنوات مستمرة.
"حاولت جاهدة أن أصارع كلبي الأسود ليتركني أنام قليلا، هذا المسعور الذي يظهر في أوقات ضعفي فاغر الفم بأسنانه الكببرة ولسانه الأحمر لا يكف عن مطاردتي، هو موجود بداخل كلا منا".
تحكي الرواية عن رحلة تعذيب وآلام مرت بها "جُمان" بسبب لحظات تغافلت فيها عما يمر به بلادها من تفكك وظنته مبالغة، لتلطمها حقيقة الواقع وتتعرض لخطف من مجموعة مجهولة أذاقتها مرارة تفكك العراق وضياع السيطرة عليه، أيام من الألم عاشتها البطلة دون أمل أو رحمة تواجه فيها عنفوان جماعة استغلت وضعا استثنائيا لتحصل منه على أكبر قدر من المكاسب، وفي أوقات الاضطراب والصراعات "الإنسان يكون الضحية وهو الثمن الذي يحصل عليه كل باغ ليحقق مكاسبه". وترصد الكاتبة الحال الذي وصل إليه العراق من انهيار كامل لتبقى السُلطة تنعم بمُلكها على حساب الشعوب، وتقول عن ذلك: "ليس مهما أن ينهار الوطن، الأهم أن تبقى صورة الرئيس متماسكة تملأ الشوارع، كأنها تشمت الفقراء".
ضحية.. لأنني امرأة
تركز الرواية بشكل كبير على المعاناة النفسية والجسدية لـ "جُمان"، لكونها سيدة تعرضت للانتهاك الجسدي والاغتصاب بشكل وحشي مقيت، وترى البطلة كلما حاوطها كلبها الأسود أن كونها امرأة هو السبب في تعرضها للخزي والعار.
"كم تمنيت أن أتخلص من جسدي لأنه جللني بالعار".
وضعت اللوم على نفسها وجسدها ونوعها، كما تفعل المجتمعات العربية في لوم ضحايا التحرش أو الاغتصاب من النساء، كانت تذكرنا في معاناتها أن لولا وجودها في الحياة كـ"امرأة" ما كانت لتتعرض للانتهاك الجسدي والنفسي، وتُستباح حُرمة جسدها بلا مبالاة وسخرية من أشخاص معدومي الشعور والإنسانية.
ظلت أزمة "جٌمان" مع جسدها مستمرة رغم تحررها من قبضة بائعي الأرواح بثمن بخس، فحاولت على مدار سنوات التناسي والإغفال عن حاجتها كأنثى، وأن تعبر عن نفسها وجسدها في العالم الذي تعيش به والمليء بالموضة والأزياء بحكم عملها، إلا أنها كانت تُخفي جسدها وتتعامل معه وكأنه وصمة عار، لتبقى الندبة التي تُخفيها على كتفها إثر الحادث مسيطرة على عقلها وليس ذراعها!
العراق ما بين الاحتلال والتفكك
الرواية سلطت الضوء على تفكك العراق وتدهور أحواله، وأحوال أهله بعدما كان مُفعما بالحياة، وذلك عقب الانتهاك الصارخ للبلاد من جيوش الاحتلال الأمريكي.
ركزت الرواية على إبراز فقدان السلطة الشرعية في البلاد لقوتها المنوط بها تنفيذها، فنجد جيش البلاد يتخاذل عن متابعة إجراء عمله والبحث عن عصابات تنخر في البلاد، لكنه خاف على نفسه ووضع حلا ضعيفا كأي مواطن يحاول الهرب من قوة لا يستطيع مواجهتها.
العصابات التي انتشرت في بلد مثل العراق، تستغل الانفلات الأمني لتحصل على جزءا من الثروات المنهوبة التي أصبحت من حق أي أحد يمتلك سلاحا، حتى ولو كانت الثروة هي البشر أنفسهم، فناقشت الرواية تجارة الأعضاء في بلد مفكك تستطيع يوما أن تخطف منه ما تشاء طالما كان يمشي وحيدا في شارع يبعد خطوات عن منزلك.
سلطت الكاتبة الضوء على المشكات النفسية، التي تسيطر على من يتعرضون لأزمات شديدة في حياتهم، وكيف يتآكل داخلهم بسبب الاكتئاب والأمراض النفسية التي لا تسقط أبدا بالتقادم.
دراما الحياة
في محاولة "جُمان" للتعايش مع الحياة التي فُرضت عليها ولم تختارها يوما، أُجبرت على ترك وطنها المكلوم، وحاولت البحث عن رفيق ينتشلها من بؤسها و"كلبها الأسود"، لكنها لم تفلح لأنها وقعت في أحضان ضحية أخرى من ضحايا وطنها عانى معاناة أخرى لأسباب أخرى في نفس الوطن، لكن "الكلب الأسود" وأدوية الاكتئاب وإحساس القهر والبرد القارس في بلاد غريبة عليهما، جمعت بينهما وتمسك كل منهما بالآخر حتى يجد مخرجا من نفسه.
جاهدت البطلة لتناسي ما مرت به وتحقق نجاحا مهنيا واستقرار في حياتها اليومية يجعلها تتظاهر بالتوازن الخارجي، لكن صفعات الحياة لا تتوقف ويأتيها الماضي الذي حاولت التخلص منه من حياتها ليقف أمامها ويطلبها في رحلة معه إلى لبنان، وهناك تتفاجئ "جُمان" أنها لم تنسى يوما معاناتها وشعورها بالألم، وتحاول جمع ما تبقى من قوتها للانتقام من الماضي وتأثيره عليها لتحاول الصمود والاستمرار في مواجهة الحياة.
مفارقات الحياة لم تتوقف لتصبح "جُمان" الفقيرة التي هربت قبل سنوات مع ألم وخزي داخلي جمعته من موطنها العراق، لسيدة تمتلك أموالا لا عدد لها برهن إشارتها، لكن كل ما يعنيها هو الخلاص من الماضي لتبدأ رحلة جديدة تخلصها من الاكتئاب وتُنهي بها "الكلب الأسود".
الأحداث ما بين المبالغة والتشويق
اعتمدت الكاتبة على لغة سلسة وجذابة في وصفها للحكاية، واستخدمت تعبيرات مناسبة تعبر عن الآلام والمعاناة النفسية للبطلة، لتُشعر القارئ بحجم المعاناة، فمثلا مشاهد الانتهاك الجسدي للبطلة لن تمر على القارئ دون أن يتأثر نفسيا ويحاول التماسك لاستكمال ومتابعة القارئ، كأنما المعاناة تخرج من الورق وتسيطر على تفكيرك. ولم تعتمد الكاتبة على التراكيب والتعبيرات الرنانة التي يحاول بعض الكتاب أن يستخدمها كعنصر جذب، بل اختارت كلماتها بعناية لتعبر عن مضمون وهدف الرواية في كل فكرة تناقشها.
حاولت الكاتبة توصيل رسالتها والتفرعات الكثيرة والموضوعات المتلاحقة على البطلة بوصف يفهم منه القارئ ما يدور، ففي العراق تحدثت عن المعاناة والتفكك والأم والضحايا، وفي لبنان اعتمدت على إبراز الثراء والجمال الطبيعي للبلاد وما تحتويه من ثروات يتملكها رؤوس الأموال في البلاد، بينما اكتفت في السويد على إبراز الحياة المستقرة والغربة والبرودة، وفي الصين أبرزت عنصر السلطة والقوة والسيطرة حتى على السجناء لحد يصل للديكتاتورية.
الرواية في سردها أقرب لفيلم سينمائي بديع، فخلال رحتلك في القراءة تنجذب في اتجاه وتوقعات لحياة البطلة، لكن الأحداث تفاجئك في كل مرة، بعض النقلات بدت مبالغة بعض الشيء، لكنها كانت مشجعة وجاذبة لاستكمال الرواية ولم تفصلني عن الحكاية بل كانت المبالغة جزءا أساسيا في جذبي لاستكمال حدوتة "جٌمان" وهي تُجابه كلبها الأسود.
للتواصل مع الكاتبة من "هنا" أو من خلال التعليقات
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب