دينا شحاتة
رغم مرور سنوات لم أنس قط حلقة شاهدتها لبرنامج "توب شيف"، كان محور الحلقة أن يقع الاختيار على كل متسابق أن يطبخ نوع من الأسماك، وجد أحد المشاركين سمك بلطي فوق طاولته، كان ذلك تحديا فوق التحدي، سمك البلطي سمك لا طعم مميز له عكس السلمون مثلا، سمك معتاد، لا يدهش مذاقه أحد، تحدى الشيف نفسه وقتها وصنع من البلطي طبقا مدهشا حصل عليه جائزة أفضل طبق في تلك الحلقة.
تذكرت ذلك بعد نهاية قراءتى لمجموعة "مثل الأفلام الساذجة" لنورا ناجي الصادرة عن دار الشروق، تكتب نورا في منطقة شديدة الخطورة، خيط رفيع يفصل فيها الساذج عن المدهش، كطبق لسمك البلطي تصنعه فتاة مبتدئة وشيف محترف، الكل يعرف كيف يصنع البلطي، لكن من يمكنه إدهاشك بطبق اعتيادي مكرر قد تأكله كل أسبوع، هنا تكمن المهارة والخطورة، أن تكتب عن العادي والمرئي والمكرر وتصنع منه الدهشة، أن تنتبه لكل تلك التفاصيل الصغيرة جدا وتراهن عليها بجرأة، كتابة تملك تلك الحساسية تجاه الواقع فترقى بالعادي منها للمدهش، هنا يكمن جمال كتابة نورا.
تحكي المجموعة القصصية "مثل الأفلام الساذجة " لنورا ناجي عن الأحلام التي تتحطم في لحظة. لحظة يتوقف فيها إدراك المرء عما حدث حقيقة، يتوقف عن إدراك تلك القسوة التي يعالج بها العالم الحالمين، من يقتربون جدا، أن تصبح شديد القرب ولا تصل.. هنا تبدأ المعاناة. لا أحد يملك لك كلمات مواساة نافعة ولا طبطبات على الكتف تهدئ قلبك. تلك الأحلام التي كانت تحمل من السذاجة مقدار ما تحمل من الصدق، وتحمل من القرب ما يمكن لك مصافحته.
لكن إفلات اليد بدون التفات كان تخصصها وكان علينا أن نعالج أنفسنا وحدنا.
في قصة "ثقب باتساع العالم" نرى تلك الجرأة الناتجة عن الوحدة، عن فداحة اكتشاف البطلة المتأخر لموت صديقتها- بدلا من أن يزيد من ثقب روحها – قد ألهمها الشجاعة.
كما نرى في قصة "خوف" رؤية أخرى عن الوحدة، "التي تملك تجسدا أكبر من الموت" كما جاء على لسان بطلة القصة، فلم يكن الموت ما يخيفها بل ذلك الفراغ الكبير الذي يعانيه الجد المريض، الذي نرى أنفاسه الواهنة بديلا هشا لمعالجة وحدته، فيأتي الموت ومعه شعور بالخفة للتحرر من فراغ قاتل.
أما قصة "يقين" تتناول إدراك الزوجة لوحدتها عبر جملة عابرة، تفصيل صغير كعدسة مكبرة ترى من خلاله تلك الأميال التي تفصلها عن شريك حياتها، ذلك اليقين القاسي الذي يكفي " فرح هش مثل ضوء ضعيف كاف لمنحها الطمأنينة" كما جاء على لسان الراوي.
في "انعكاس" تلك القصة المنفردة التي ترى الكراهية كلذة يمكن الاستمتاع بها وتمرير أخرى لفكرة الوحدة الناتجة من تلاشي الآخر دون انزعاج حقيقي.
أما عن قصة "عروس النبي دانيال" فنرى رغبة الزوجة المضطهدة في التحرر من عنف زوجها بالتفكير في حفرة تظهر فجأة وتبتلعها، بقلة حيلة تفكر في التلاشي كمرادف أخف وطأة من حياة لا تملك فيها حماية ذاتها. ونرى ذلك يتجدد أيضا في قصة "فتح المندل" وكيف انتهت حياة بطلتها الابنة التي منعت من رؤية أمها -بتعمد من الأب- كظل أسود على الحائط.
تكثف تلك المجموعة القصصية معالجات كثيرة عن الوحدة والموت، عن الأحلام الساذجة التي تتحطم من شدة هشاشتها أمام قسوة الواقع، فتبقي ثقوبا كبيرة داخل الروح. تقرأ تلك القصص وتتعاطف مع أبطالها، ترى نفسك من خلالهم، فقد زارتك تلك الثقوب من قبل، رأيتها أيضا بعدسة مكبرة، جزعت لكثرتها، تقبلتها، سكنت بعد رؤية نبتة خضراء صغيرة داخلها بعد أن روت دموعك تلك الثقوب، حرصت على تلك النبتة داخلك حرص خائف، فتحت أبوابك ثانية للشمس بأمل مرتعش كأبطال تلك القصص ما لبث أن كبر _دون إرادة حقيقية منك لتبدأ أقدامك في الاقتراب ثانية، وكأن ما حدث لم يحدث، وكأن العالم مطالب باعتذار لما قام به برعونة تجاهك، تصل ثانية فلا يتذكرك العالم ولا يتوقف التوقيت لأجلك، ولا أحد يعتذر.
وحدك تبقى.. وحدك تعرف
وحدها النبتة الخضراء التي تظلل قلبك تبقى الشاهد على ما مررت به.
ووحدها من تهدي إليها انتصارك في النهاية.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب