القائمة الرئيسية

الصفحات

الحكم العثماني لمصر.. فتح أم غزو؟

يوسف الشريف


إن قضية وجود وحكم الدولة العثمانية لمصر قضية في غاية الحساسية، ودائما نجدها مثار جدل وخلاف مستمر، وكل طرف يغالي في وجهة نظره، فهناك من يجعل العثمانيين في براءة الملائكة، وحماة للدين، ومنهم من يراهم كشياطين الإنس، وفي وسط الفريقين كادت الحقيقة أن تضيع.



ما يجعل تلك الفترة من تاريخ مصر الطويل فترة هامة، هو أن ما وصل إلينا في حاضرنا من تلك الفترة سواء أفكار أو معتقدات وأيضًا عادات، لا تزال تؤثر ونراها يوميًا في حياتنا، وهو ما يجعل الرجوع إلى قراءة وتناول هذا العصر وتلك الفترة في تاريخ مصر شيئا هاما بالضرورة.



فإذا ذهبنا إلى اثنين من الكتب التي تناولت هذه الفترة من منظورين مختلفين، وهما كتاب "رجال مرج دابق" للكاتب والمؤرخ الراحل صلاح عيسى، وكتاب "أيام سليم الأول في مصر" لوزير الثقافة الأسبق حلمي النمنم، والكتابين من إصدارات دار "الكرمة" للنشر والتوزيع.



فتح أم غزو؟


في الكتابين نحن أمام رؤيتين مختلفتين، متضادتين في أغلب الأحيان، بين صلاح عيسى الذي قال وأعتبر العثمانيين فاتحين، وبين النمنم الذي أعتبرهم غزاة.



فإذا قرأنا كتاب صلاح عيسى وجدنا أنه يعتبر أنه لا فارق بين دولة المماليك تلك الدولة التي جاءت قبل حكم العثمانيين وبين العثمانيين، ويرى عيسى أن المماليك كانوا يعيشون في عز وترف في حين أن الشعب يموت جوعًا، كما كان السلطان المملوكي يقوم بتوزيع الأراضي على الأمراء، هؤلاء الأمراء الذين كانوا يسرقون البلاد وقوت العباد، لكي يستولوا على خيرها، كما أن المماليك كانوا مختلفين فيما بينهم ويتعاركون ويتقاتلون على المناصب، لدرجة جعلت أغلب سلاطين المماليك ماتوا بأسباب مثل الغدر والخيانة والوشاية، ويكون شغل المماليك الشاغل هو جمع المال والحصول على المنصب فقط.



أي أن كاتبنا الكبير صلاح عيسى يعتبر أنه لا فارق بين الدولة المملوكية والعثمانية في شيء، فالاثنان يعملان لتنفيذ مصالحهم الشخصية، ومطامحهم الاستبدادية، التي تسخر الأرض ومن عليها للوصول لأكبر مكسب ممكن.



ويرجع عيسى أن انتهاء دولة المماليك في مصر الحقيقي كان بعد أن اكتشف البرتغالي "فاسكو دا جاما" طريق رأس الرجاء الصالح، في السنة السابقة لصعود الغوري، السلطان قبل الأخير لدولة المماليك على العرش، مما جعل خزائن المماليك التي يتم ملؤها عن طريق التجارة تتضرر كثيرًا بسبب وجود منافس جديد.


 

أما النمنم في كتابه يرى أن العثمانيين كانوا من أسباب تخلف العرب لسنوات، وأن آثار هذا التخلف والجمود تمتد حتى يومنا، وأنهم كانوا سببا رئيسيا في تسليم مصر إلى الاحتلال الإنجليزي، بعد أن أصدر السلطان عبد الحميد منشور عرابي حين كان عرابي والشعب المصري يحارب الإنجليز. وأيضًا يذكر النمنم لجوء العثمانيين إلى الدول الأجنبية لحسم صراعهم مع محمد علي، مما أضر مصر للغاية.



أي أن كاتبنا الكبير يرى أن وجود مقارنة بين مصر المملوكية ومصر العثمانية مقارنة لا يجب أن تقع، لأن ثمة فارق كبير بين المماليك الذين ولد بعضهم وأغلبهم على أرض مصر وعاشوا وسطها ولم يسلموها إلى الاحتلال أو يتعاونوا مع الأجانب لقهر شعبها، وبين العثمانيين الذين تعاونوا وسلموا البلاد ومصيرها وناسها للاحتلال وحاولوا كبح أي محاولة للتقدم والبناء والتعمير لتكون مصر دائمًا مجرد ولاية خاضعة للسلطان العثماني.



الاستغلال الديني


ويرى النمنم أن الفترة التي قضاها سليم الأول العثماني في مصر وهم ثمانية أشهر إلا أسبوعًا كانت من أسوأ فترات التاريخ المصري، حيث جعل العثمانيون مصر مجرد ولاية تابعة لإستانبول، وبلد مليئة بالخراب والأحزان، هذا بالرغم من أن العثمانيين أدعوا بأنهم سيحكمون مصر بالإسلام والشريعة.



ويتناول حلمي النمنم في كتابه مدى استغلال الدولة العثمانية للدين حيث أنهم يحاولون دائمًا التلاعب بالنصوص المقدسة لخدمة طموحاتهم أو مطامعهم الشخصية، وإباحة القتل والدمار في سبيل الوصول إلى الحكم، حتى ولو على حساب قتل السلطان لإخواته او أبناءهم وحتى أبويه، من أجل اعتلاء كرسي العرش، كل هذا بالتلاعب بالنصوص المقدسة التي يتم تطويعها لتحقيق اطماعه وخدمة الأهواء الشخصية والمطامح والشهوات. ويرى النمنم أن الأمر لم يتوقف على التلاعب بالنص القرآني عند العثمانيين للوصول للحكم بل تجاوز ذلك للدرجة التي جعلتهم يعيدون تأويل بعض الآيات حتى يتثنى لهم غزو البلدان ونهب خيراتها حتى لو كانت تلك البلاد إسلامية سنية مثلهم، مثل مصر.



ويذكر النمنم مدى الفساد الذي ضرب المجتمع والشارع المصري مع دخول العثمانيين الذين أخذوا يسرقون المحلات والحوانيت، وينهبون البيوت ويغتصبون النساء في الشوارع ويلوطوا الصبية، بل ويقتلون الناس من فوق المآذن التي من المفترض أن تكون أماكن مقدسة يحرم استخدامها لإسالة الدماء، نظرا لإقامة الشعائر الدينية بها، كل هذا تحت عين ومراقبة السلطان الذي قال إنه سيحكم باسم الدين والشريعة.


كلمة السر في الخيانة


ولكن الكتابين سواء "رجال مرج دابق" أو "أيام سليم الأول" في مصر، اجتمعا على نقاط أهمها أن العثمانيين دخلوا مصر بمساعدة بعض الخونة على رأسهم، خاير بك الذي اشتهر بخاين بك، الأمير المملوكي الذي خان سلطانه لمصلحة العثمانيين في معركة مرج دابق، وجان بردي الغزالي الذي خان آخر سلاطين المماليك طومان باي في معركة الريدانية، هذا بالإضافة إلى خداع سليم الأول للغوري عن طريق رسائل الود التي كان يرسلها الأول للثاني باستمرار، قبل أن يفصح عن وجهه الحقيقي ونواياه الدفينة. وأن العثمانيين سلبوا مصر من أحد اهم نقاط قوتها حيث أخذوا إلى إستانبول عدد كبير جدا من أهم أصحاب الحرف والتجار أصحاب الخبرة والمهارة، مما جعل العديد من الصناعات والحرف في مصر تنهار.



وأنا أرى أن رؤية حلمي النمنم في كتابه تفوق من حيث أنه ربط بين الأفكار والمعتقدات التي تركها العثمانيون في مصر ولا زالت تؤثر في فكرنا وسبب من أسباب تخلفنا، وبين ما كان يحدث وقت دخول سليم الأول مصر من سلب لهويتها ولجمالها الخاص سواء الفني أو غيره.



ولكن مما لا شك فيه إننا الآن ومع ظهور أشخاص جدد يحاولون التلاعب بالنصوص القرآنية المقدسة لخدمة أهوائهم الشخصية، ومع رؤية وطنية تطمح في إعادة مصر إلى مكانتها المعهودة، وأن تنفض عن كاهلها كل هذا الغبار الذي التصق بها عبر مئات السنين، تصبح الحاجة والعودة لقراءة التاريخ، والنظرة إليه نظرة موضوعية شاملة، تجعلنا نضع أيدينا على أهم الأخطاء التي أرتكبها من سبقونا حتى نحاول الابتعاد عنها مستقبلا، كما نحاول من خلال تلك القراءة أن نضع أيدينا على أهم الأفكار والعادات والتقاليد التي أدخلها الاستعمار وملأ بها العقول، وصبغ تلك الأفكار صبغة دينية إيمانية، حتى تلقى الصدق لدى المتلقي، فيصبح الفصل بين العادات والتقاليد وبين جوهر الدين شيء بالغ الصعوبة. لأن تلك الأفكار التي تم بثها وزرعها لإفادة النظام الاستبدادي طوال تاريخ مصر في كافة العصور والمراحل التاريخية ولا شك المرحلة العثمانية التي كانت تهدف في المقام الأول طمس الهوية المصرية، وسلب كل ما هو جميل وكل ما هو فني منها.

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات