القائمة الرئيسية

الصفحات

في ذكرى رحيل جمال الغيطاني.. "حكايات الغريب" الذي نعرفه جميعًا


دينا الحمامي


قليلة هي الأعمال الفنية سواء السينمائية أو الدرامية التي أخذت من أعمال الأديب الكبير جمال الغيطاني، ولكن بلا شك بعض هذه الأعمال الفنية التي اقتبست من قصص أو روايات الغيطاني كانت من أهم الأعمال الفنية في تاريخنا ولعل مسلسل "الزيني بركات" إخراج يحيى العلمي، بكل ما يحمل من معاني واحد من أهم المسلسلات الدرامية.


واليوم في ذكرى رحيل الأديب والصحفي الكبير جمال الغيطاني، نقرأ ونعيد معًا واحد من أهم الأفلام وأكثرها تميزًا، الفيلم الذي لم ينل ما يستحق من تقدير، والذي قدم فيه بعض الممثلون أهم أدوارهم وهو فيلم "حكايات الغريب" إخراج إنعام محمد عل، والمأخوذ من مجموعة قصصية بنفس الاسم للغيطاني. 



عمل الغيطاني كمراسل حربي أثناء فترة الاستنزاف إلى ما بعد نصر أكتوبر المجيد، مكنه من استيعاب كل ما حدث خلال تلك الفترة المهمة والفارقة من عمر الوطن، ليخرج لنا بمجموعته الرائعة "حكايات الغريب " القائمة على أحداث حقيقية تأثرت بها المخرجة المتميزة أنعام محمد علي فقررت تحويلها إلى فيلم تليفزيوني عرض لأول مرة على الشاشات عام ١٩٩٢.


بخصوص واقعة اختفاء السائق عبد الرحمن محمود عبد الرحمن من يوم ٢٣ أكتوبر ١٩٧٣ وحتى تاريخه أنا طاهر أحمد المصري، أعتذر عن تقديم أي بيانات أو تفاصيل عن الواقعة المذكورة وأقرر على مسئوليتي بأن السائق عبد الرحمن قد منحنا شرفًا أرجو أن نستحقه.


بهذه الكلمات أنهى مسؤول الشئون الإدارية بكبرى المؤسسات الصحفية تقريره الذي كلف به بعد اكتشاف فجوة في العهدة التي كانت بحوزة السائق عبد الرحمن محمود عبد الرحمن، والذي قام بدوره النجم محمود الجندي، بأداء استثنائي نابع من فنان واعي يدري كيف ومتى يستخدم أدواته مستغلًا كل طاقاته الإبداعية من تجسيد غير مفتعل وتقمص حد الإذابة باعتباره ابنًا وافيًا لمدرسة التقمص، فتتشكل لجنة همها الأول والأوحد البحث عما كان بعهدة السائق من سيارة ومطبوعات لتبدأ رحلة بحث مطولة انطلاقًا من بيته في الجمالية بالقاهرة.




للأنثى والمراة حضور ودور مهم في الفيلم، فبتتبع الأنثى ودورها، نرى مدى تأثيرها في سير الأحداث وحتى في تشكيل مصائر الرجال بداية من ابنة شقيقة البطل الطفلة أمل الطفلة الجميلة البريئة الواعدة والتي استشهدت في ضرب العدو لمدرسة بحر البقر، أو في زينب أمها الأم الثكلى بوفاة قرة عينها وحال أسرتها البائس. 


نجد نموذجًا آخر في نجية الأم المكلومة بوفاة ابنها فؤاد في حرب ١٩٦٧ والحزينة على ابنتها الثكلى هي الأخرى وعبد الرحمن أصغر أبنائها والذي تصفه بكلمات قليلة بليغة: "أصغر ولادي، طول عمره صابر وحمال آسية لا تعب قلبي ولا كان يعكنن عليا، نفسي يأخد عيني بس يرجع".



شخصية جميلة في الفيلم.. مثال للضحية والتضحية في آن واحد، وتحمل من اسمها نصيبًا، فهي خطيبة البطل عبد الرحمن التي تتعرض للضغط من والديها لفسخ خطوبتها والتخلي عن عبد الرحمن المأزوم كي تتزوج غريمه شفيق، البطل المضاد والذي جسده الفنان حسين الإمام في دور يمكننا أن نعتبره دور عمره، حيث أدى الدور ببراعة وبدون مبالغات و نجح في نقل صورة الشخص المؤذي من أجل الإيذاء فقط، فيسرق الأرزاق ويستخدم مهاراته الفذة في النصب على عبد الرحمن بعدما باع له سيارة تاكسي متهالكة، ويرفض أن يتنازل عن تقاضي حقها كاملًا.


 تحاول جميلة أن تحافظ على الرمق الأخير من خطوبتها بأن تخبر خطيبها بضغوطات عائلتها ليجيبها برد يكشف عن شخصيته الطاهرة حد الندرة:

"أنا مش عيان يا جميلة أنا بس قلبي رهيف، انا متخلقتش للعالم ده، أنا اتخلقت لعالم مفيهوش غدر ولا طمع ولا افتراء، أنا مش عارف أتعامل مع العالم ده، كل ما أحب حاجة تروح مني".


 حتى تضيع جميلة هي الأخرى من بين يديه في طقوس زفاف تكاد تكون جنائزية، لتخلع فستان زفافها كأنه كفن لتتشح بالسواد في غرفة زواجها، لتتعرض لعملية اغتصاب زوجي سادية، وكأن جميلة الوطن المعرض للاغتصاب من قبل العدو وكأن أهلها سماسرة كسماسرة الأوطان يبيعونها ليقبضوا الثمن من الأعداء أمثال شفيق الذين يمصون دماء الفقراء بتبجح ويستحلون أقواتهم. 



أدت الفنانة هدى سلطان مشهدًا وحيدًا في الفيلم ولكنك لا يمكنك أن تسترجع أحداث هذا الفيلم بدون تذكر وجه أم الأبطال الملائكي، المتلحفة بالبياض والتي كرست بيتها كاستراحة للأبطال من جنود الجيش أو المقاومة الشعبية.


في الفيلم حرصت المخرجة إنعام محمد علي، إظهار واقعية المكان خاصة في السويس وإظهار تفاصيل أماكن التصوير الحقيقية فنجد نقطة التفتيش التي مر عليها السائق بالسيارة ٣٧٢٧ صحافة يوم ٢٣ أكتوبر ١٩٧٣ ولم يخرج، والمستشفى الذي يعطي مديرها درسًا للمسؤول الثاني باللجنة بأن في الحرب لا نعتد بالملفات ولا نعبأ سوى بإنقاذ الأرواح قائلا له بالحرف:

"الخلل هنا (مشيرا على الرأس) مش هنا (مشيرا إلى الملفات)، ليكمل موظف المحافظة عبثية الموقف عندما لجؤوا إليه للبحث عن السيارة التي كانت بحوزة البطل بأن يبتسم ابتسامة اطمئنان".


تستمر رحلة البحث في السويس لتتواصل بسحر القصص والحكايات التي يرويها أهالي المدينة الباسلة التي تحتضن الجميع وتصهرهم لتخلق مزيجها المميز، ليصبح جزءًا متأصلًا من نسيجها، فالسائق عبد الرحمن أصبح الغريب الذي صال وجال بين الفدائيين ببطولاته كما يروي الكابتن غزالي من أبطال المقاومة الشعبية والذي قام بدوره الفنان محمد الشويحي، وهو كمال الذي حمل "الأر بجي" صائدًا للدبابات كما روي الأستاذ شوقي الذي يعد من كبار أبطال معركة الأربعين، وهو العريف حسن في الجيش والذي زرع العلم بتكليف من الرائد محمود عمار واستشهد يوم ٦ أكتوبر، وهو خلف في عين أم الأبطال، حتى تصل ذروة الحكايات بنهاية الفيلم حد السير والأساطير فهو زخاري وعواد وأشرف ومصطفى الذي يجوب بقرب الهاويس، ويهيل التراب عن بئر السويس بعد ضرب محطة المياه من قبل العدو حتى طلعت المياه الحلوة بلت ريق الناس والعساكر طوال أيام الحرب.


في الفيلم هناك ثلاثة أصدقاء يجمعهم حب الوطن وأزماته فحسن(شريف منير) شقيق جميلة وصديق عمر (الغريب) وجاره في السكن، يخطب حب عمره سلمى والتي تغيرها الأيام بعد أربع سنوات من الخطوبة لتصبح أكثر عملية، فتعرض عليه السفر للخليج لمواصلة العيش فيرفض رغم إنتهاء الحرب لأن شفيق ما زال موجودًا إذن فالحرب لم تضع أوزارها، ثم ينهي تبريره قائلا: "حسافر يا سلمى بكرة السويس أدور على عبد الرحمن".



يرافق حسن الضلع الثاني في مثلث الصداقةسيد(محمد منير) سيد البهجة والتفاؤل في حياة كل من حوله والذي يتحايل على الظروف مستخدمًا صوته للتخفيف عن أصدقائه حتى أثناء رحلة البحث عن الغريب في السويس، ومستغلًا موهبته للتكسب من ليالي الطبقة المخملية ما يلبث أن يجد اللجنة ليسافر بصحبتها وكأنها ليست مجرد رحلة للبحث عن عهدة أو حتى صديق بل رحلة استكشاف عن هوية. 


يكمل البطل "الغريب" العنصر الثالث في ثالوث الصداقة فهو البطل المسالم حد الركود والذي دفن أمله في بحر البقر، و ذبح فؤاده في ٦٧ وسرقت منه جميلته من قبل شفيق )المهلباتي، التاجر في اقواتنا الفاجر).


في مزج بين العدو الرابض على الجبهة والمحتل لأرض الوطن وبين العدو الداخلي للمتمثل في أصحاب المصالح وسارقي الفقراء نرى البطل يقول: "اللي يسرق قوتكم، زي اللي يسرق بلدكم".


وصل البطل إلى ذروة التحول بفضل حرب أكتوبر المجيدة حيث أضحى بطلًا أسطوريًا، جنديًا من جنود الشمس ينسج ملحمة العزة حروفها والفخر سطورها ليصبح الغريب ابنًا للجميع، لا لأسرة بعينها، تاركًا بصمة في كل قلب، فيترك كل هذا ويختفي تماما ليترك أذناب الشر أمثال شفيق، وكأنه المسيح يترفع عمن تآماروا عليه، فيرفع بعد أن وهبنا الخير وبث فينا الحياة وعلمنا أصول الفداء ومنحنا شرفًا نرجو جميعًا أن نستحقه.

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق
  1. فكرتنى بذكريات عظيمة قد ايه الاستاذ جمال كان سابق عصره بطريقته الساحرة ميرسى على المقالة الرائعة
    اسعدتنى جدا قرائتها

    ردحذف
    الردود
    1. متشكرة جدا يا فندم على القراءة والإشادة، أتمنى دايما أكون عند حسن ظن القراء

      حذف

إرسال تعليق

شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب