في الثلاثينيات من القرن الماضي لم يجد الزعيم الهندي جواهر لال نهرو، وهو في السجن، شيئًا أفضل من كتابة رسائل لابنته أنديرا فكان كتاب "لمحات من تاريخ العالم".
وفي العقد الثالث من القرن الحالي لم يجد الدبلوماسي والكاتب جمال أبو الحسن، خلال فترة حظر جائحة كورونا، أفضل من كتابة رسائل لابنته ليلى فكان كتاب "300,000 عام من الخوف"، الصادر حديثا عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة.
وليست تلك - قطعا - مقارنة بين الكتابين بأي شكل، ولكنها الظروف المتشابهة، أو التي أرى أنها متشابهة، فالمحنة (سجنا أو حظرا) قد تقيد حركة الجسد، لكنها تُطلق العنان للعقل والتفكير، وبلا حدود.
إن الكتابين لا يمكن تصنيفهما على أنهما كتابات أكاديمية أو دراسة علمية بالمعنى المباشر، ولكنهما يقدمان ما هو أهم من تلك الأعمال الأكاديمية أو العلمية، حيث يتفاعل كل منهما مع التاريخ والحياة وتشبتك معهما بصورة مباشرة.
دعنا من كتاب نهرو!
إن القيمة الحقيقية لأي كتاب هى أن تبدأ علاقتك به وبما يطرحه من أفكار في اللحظة التي تنتهي من قراءته، الأسئلة هنا أهم مائة مرة من الإجابات، وهو ما فعله "أبو الحسن" في كتابه.
هل يمكن أن ننسب تطور البشرية إلى عامل واحد وحيد كما يوحي عنوان الكتاب؟ هل "الخوف" هو فعلا الدافع الحقيقي لما فعله أو لم يفعله الإنسان على كوكب الأرض؟
الخوف فعل بشري (وغير بشري) على كل مجهول أو خطير، ففي لحظة ما يجب أن تقرر: إما المواجهة وإما الهرب؟ وفي كلتا الحالتين سوف تكتشف في نفسك قدرات "شبه خارقة"، وهو ما عاشه الإنسان بالضبط منذ اللحظة الأولى على هذا الكوكب.
إن اكتشاف النفس / الشخصية الإنسانية مر - على مدى آلاف السنين - بمراحل مختلفة وجذرية، من الهرب إلى المواجهة، وفي كثير من الأحيان كانت المواجهة اضطرارا، وإلا فإنها النهاية.
لكن، هل يمكن في المطلق تسمية ما حدث، أو ما أحدثه البشر، عبر تلك السنوات الطويلة بـ "التطور"؟ هل "تطورنا" فعلا؟ واقع الحال يقول ذلك، وتؤكده كل الشواهد، لكن إلى أي مدى؟ هل ذلك ما يطمح إليه البشر فعلا؟ هل الهدف هو "تسهيل" الحياة وظروفها وتطويعها لخدمتنا؟ هذا - كما يبدو - هو الهدف المباشر.. هل نقول الطبيعي؟
لكن - وكما يلاحظ الكاتب بذكاء - فإن عملية "تسهيل الحياة" أدت إلى تعقدها وتشابكها، لأن التطور احتاج في طريقه إلى التوسع في كل شيء، أدوات ووسائل وفكر وأسلوب، وصل لحد اللامعقول في أحيان كثيرا، فأصبح الإنسان جزءا من كل.. بداية من الأسرة إلى القبيلة إلى المدينة إلى الوطن، وكلما زاد حجم وشكل العلاقات فإن ذلك استدعى مزيدا من التعقيد على كل المستويات، وزادت بالتالي الأعباء النفسية والاجتماعية والاقتصادية.
الأخطر من كل ذلك، أن البشرية رغم كل ما حققته، لم تستطع السيطرة على كل شيء، فالتحديات والمخاوف لا زالت مستمرة، تماما كما فعل "فيروس كورونا" بنا في السنتين الأخيرتين وخسائره المهولة.
من هنا يركز كتاب "300000 عام من الخوف" على أنه مع كل مرحلة من مراحل التطور نتيقن أن الطريق لا يزال طويلا جدا لكي نصل إلى تحقيق نصر حاسم ونهائي، أو - وهذا هو الأصح - أننا لن ننتصر، لأن "سر الحياة" يكمن في استمرارية "الحرب"، فالطبيعة - كما الإنسان - تتطور أيضا ولا تستسلم.
لعل أهم ميزة في هذا الكتاب أنه ليس بالضبط كتابا عن العلم، تماما كما لم يكن كتاب نهرو كتابا عن التاريخ (ومرة أخرى ليست تلك مقارنة بين الكتابين) إنه رصد لرحلة طويلة مُرهقة، ولا زالت، وعتابي الوحيد - على الكاتب - أنه لم يستمع لطلب ابنته ألا يستفيض في رسائله إليها، لكن - من جانب آخر - لم يكن - كما يشعر القارىء - من الاستفاضة، لأن الأفكار كثيرة والمساحة الزمنية التي يرصدها الكتاب أطول وأخطر من أي اختصار.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب