منذ أيام معدودة توفى الأديب الكبير بهاء طاهر عن عمر يناهز ٨٧ عاما، نزل عليِّ الخبر بحزن عميق، فأستاذ بهاء قبل أن يكون أديبًا كبيرًا والعربي الأول الحاصل على جائزة البوكر عام ٢٠٠٨، فهو إنسان قمة في الجمال والنبل وآية في الرقي والعطاء.
قرأت عنه عشرات المواقف الإنسانية مثل تبرعه بقطعة أرض خاصة به للدولة لإنشاء قصر ثقافة الأقصر مسقط رأسه، وعن موقفه مع الكاتب وليد علاء الدين وخطاب التوصية الذي كتبه له عام ١٩٩٦ لعمل عضوية اتحاد الكتاب، رغم أنه لم يكن ناشرا أي كتاب وقتها؛ وذلك لإيمانه الكبير بموهبته، وعن توقيع كل من الغيطاني والأسواني على العضوية أيضا ثم تبليغه بالهاتف، وعندما مرت السنوات وتقابلا مجددا في ٢٠٠٨ ولما ذكره الأستاذ وليد بالوقعة قال له: "كنت أقوم بواجبي".
مساحة إعلانية |
وبحسب كلام دكتور حسين حموده تبرع بهاء طاهر بالجانب المادي لجائزة ملتقى السرد العربي بالأردن وقت استلامها، وعن جائزة آخرى رُشح إليها فقال امنحوها للخمايسي هو أولى مني بها، وعن مقابلته للقراء وعن معاني أسمائهم التي يخبرهم بها فور رؤيتهم لاضفاء روح من الألفة والمودة، وغيرها من المواقف التي لا يتسع لها المقال لكنها تعلمنا كيف يكون الأديب إنسانًا قبل أن يكون كاتبًا مبدعًا، عن دعمه للجميع خاصة الشباب حدث ولا حرج، وبغض النظر عن البعد الإنساني لبهاء طاهر، تأثرت بخبر رحيله لأن رواياته أثرت في شخصيتي وتكويني وتفكيري وفي فهمي لمشاعري العميقة.
في البداية تعرفت على بهاء طاهر من خلال ترجمته لرواية "الخيميائي" التي احتفظت بنسخة عتيقة ونادرة منها في مكتبتي، ثم توالت قراءاتي له "خالتي صفية والدير"، و"واحة الغروب"، و"قالت ضحى".
أول مرة قرأت "خالتي صفية والدير" أصبت بحالة من الفزع ولأكون صادقة مع نفسي ربما تلك الحالة تسيطر عليِّ حتى الآن. فبعيد عن جمال الرواية وأسلوب حكيها السلس الرشيق وعن عذوبة السرد وروعة الحكاية نفسها، أصبت بهلع حقيقي وعميق وظل داخلي سؤال يطن في أذني كذبابة ضعيفة الذاكرة أيمكن أن يتحول الحب إلى كراهية شديدة ثم عداوة ثم سعي لموت الحبيب لاخفائه من على وجه الأرض؟
كلنا قرأ الرواية، وشاهدنا صفية التي أحبت حربي وتمنته زوجًا منذ الصغر، انتظرته طويلا لكنه لم يكن يلاحظ وجودها، ولم يكن يحبها، فلما تقدم خاله القنصل لخطبتها لنفسه وافقت عليه، وتحول حبها لحربي إلى نار في صدرها، تزداد اشتعالا يوما بعد يوم حتى تحولت إلى ضغينة، ثم سعي للانتقام عندما سلطت عليه القنصل ليجلده وسط البلد، فضربه حربي بالنار دفاعا عن نفسه، مات القنصل، وسُجن حربي، وتحولت صفية إلى أكبر كارهة لحربي، بعدما كانت أكبر مُحبة له حتى أنها سمت حمارًا لها على اسمه، كانت تضربه بعنف كل يوم، ولم يُشفى غليلها، عاشت على أمل خروجه من السجن لتأخذ بثأرها منه، ولما مات الموت الطبيعي الإلهي بسبب مرضه لم تستوعب الصدمة، فماتت قهرا.
كنت أسأل نفسي طوال الرواية كيف يتحول الحب إلى تلك العداوة حتى وصلت إلى تأويل خاص بي أن صفية لم تكن تحب حربي سوى حب امتلاك، كانت ترى أنها تستحقه منذ الصغر، عاشت عمرها لا تحلم بسواه، وتعتقد أنه يبادلها نفس الشعور، ولما أدركت أنه لا يشعر بها، لا يراها أصلا، شعرت أنها انتهت، كأنها ماتت، فقررت دفن حياتها في حياة القنصل، الذي كان في عمر أكبر من أبيها، تخلت صفية عن إنسانيتها وبراءتها ومحبتها ولطفها مع الجميع، وتحولت إلى مسخ غير إنساني، شخصية مسيطرة متحكمة في كل شيء، انتقامية بسبب النار التي تكوي أضلعها، موهوسة بفكرة القتل والأخذ بالثأر، في الحقيقة لم تكن تريد قتل حربي لتثأر للقنصل بل لتثأر لنفسها.
علمني بهاء طاهر في شخصية صفية أن الحب حرية، وأنه ينقذ الأرواح أو كما يقول الأبنودي: وإنت تقولي لي بحبك تحبي إيه فيّ وده حب إيه ده اللي من غير أي حرية.. أو كما يقول بهاء طاهر نفسه في رواية نقطة النور: حدثني ماذا يقول جدك عن الأرواح؟!
- يقول كل الأرواح جميلة وكلها طيبة
- وهل قال لك يا سالم ما الذي ينقذ هذه الأرواح؟!
- نعم، قال الحب
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب