على غير العادة، احتفل معنا الدكتور "سعيد القاضي" بعيد ميلاده الخمسين، وكعادة هؤلاء الأوغاد كلّما ازدادوا في السنِّ زادتْ وسامتهم، وتمرَّدوا علينا نحن النساء، لا يزال بنفس الجاذبية، صفُّ الأسنان كاملُ العدد، وبحالةٍ جيدة بالرَّغم من إفراطه في التدخين والمنبهات، بياضُ شَعره مع انتصاب قامتِه، وتورُّد وجهه، يعبثون بمَن يراه للمرَّة الأولى فلا يستطيع تحديدَ سنٍّ معيَّن له.
يكتنفه غموضٌ سحري، سلبَ اهتمام مَن يقع في دائرته أعظم مواهبه، يجذبُ إليه مَن حوله بقوَّة مغناطيسية لا يعلم أحدٌ مصدرَها، نجح في الطبِّ وبرعَ في السياسة، عازفٌ ماهر، ماجنٌ خبير، طرازٌ فريد من أبالسةِ الطين، لا ينقصه إلا كتابةُ الشِّعر لينال لقبَ ممْسوس.
سألتُه ليلتَها:
ــ أما زلتَ تحبُّني؟
ردَّ بشكل آلي:
ــ لم أعدْ أحبُّ أو أكره
ــ أما زلتَ تحبُّني؟
ردَّ بشكل آلي:
ــ لم أعدْ أحبُّ أو أكره
استدعيتُ ابتسامة مُصطنعة وتسمَّرتُ مكاني، ضُرب بسورٍ بيني وبين مفردات اللغة وفقدتُّ النطقَ للحظات، كان ردًّا قاسيًا ومُريعًا ويتنافى معَ خبراته الطويلة في أحوال النساء، حتى لو كانتْ هذه حقيقةَ ما يشعرُ به تجاهي، لم أكن أتوقَّع مثلَ هذا الرَّد من رجلٍ مثله، كان ليلتها صريحًا بمرتبةِ غبي، ابتلعتُ كلماته، بدَا مذاقُها لاذعًا كثمرةِ برتقال لم تنضجْ بعد، أحسَّ بالسَّقطة وتعمَّدَ تغييرَ سيْر الحديث فتظاهرتُ باللامبالاة، لكنَّ كلماته كانت قد نُقِشت في قلبي بوشمٍ داكنٍ.
اندفعتْ من ذاكرتي نزواتِه النسائية دفعةً واحدة، بعدَ دخوله عالم السياسة ترددتْ بعضُ الشائعات عنْ علاقته بصحفيةٍ حديثةِ التخرج، تدْعى "سوزان جلال"، أصحبت بعد ذلك الإعلاميةَ المشهورة "سوزان الحلو"، ألمحتُ له بذلك فردَّ بعدم اهتمام، قال إنه يعلمُ ما يُشاع عنه، وأكَّد لي أنَّ مصدر هذه الشائعات هو أحدُ منافسيه السياسيّين في الحزب، لم يظهر عليه وقتَها لجلجةُ المدَّعي أو ارتباكُ الكاذب، كانت حجة ساذجة لكنَّها نجحتْ مع امرأةٍ لديها نية مُسْبقة للاقتناع، بعدَ ذلك توالتِ الوشاياتُ وكان الردُّ في كلِّ مرَّة مختلفًا ومقنعًا، الحقيقة أني ساعدتُّه بشكلٍ ما على إقناعي، ببساطة كنتُ أخشى الوصولَ إلى اليقين، آثرت المكوث في دائرةِ الشَّك، تأتي الوشاية فأتعمَّد التجاهل، كنت أخشى فقدَه بالرَّغم من إهماله المتعمَّد، وفي ذلك الوقت كنت لا أزال أحبُّه، أو ربما خشيتُ فقدَ مكانة اجتماعية يحسدني عليها كلُّ مَن يعرفني، يكفي ذكرُ عبارة (زوجة الدكتور سعيد القاضي) لتفتَح كلُّ الأبواب المغلقة.
قَنعت بسكينةٍ مشوَّهة أو لنقلْ استقرارٍ بارد خالٍ من المشاعر، أمانٍ نسبي يدعمه تغافلٌ مقصود، لا مجالَ هنا لعقل متيقِّظ.
ذاتَ مرَّة، حدَّثتني إحدى مرضاه عن علاقة خاصَّة تجمع بينه وبينَ "أميرة توفيق" سكرتيرته الخاصَّة، والتي تظلُّ معه بعدَ مواعيد عمله الرَّسمية لساعات، قابلتُ هذه الواشية في أحدِ الصالونات الثقافية التي كنت أتردَّد عليها باستمرار، قالت إنَّها على صلةٍ بأسرة "أميرة" وتعلمُ عنها الكثير، كان يكفي زيارةٌ مفاجئة للعيادة أو المكتب هممتُ بها أكثرَ من مرَّة ثمَّ تراجعت، اكتفيتُ بالاتصال، أقدمتُ على ذلك لمرةٍ واحدة فقط، هاتفت تليفونَ العيادة بعد انتهاء مواعيد العمل الرَّسمية بساعة وكلّي أملٌ ألا يردَّ أحد، رنَّ التليفون لمدة عشْر ثوان بدون رد، تنفَّست الصعداءَ وهممتُ بغلق الخطِّ ولكنَّ العاهرة لم تجُد عليَّ بنعمة السكينة؛ ردَّت في النهاية بنغمةٍ هادئة ورحَّبت بي بشكلٍ مبالَغ فيه، ثمَّ أبلغتني بنفس الهدوء: لا يمكن التواصلُ الآن مع الدكتور "سعيد"؛ لدينا حالة طارئة.
أغلقتُ الهاتف وأنا على ثقةٍ أنه بجانبها إنْ لم تكن تتلوَّى على فخذيه، بصقتُ على الأرض وتخيَّلت في نفسي كمَّ السخرية التي نلتُها منهما بعدَ انتهاء المكالمة، ثمَّ تنوَّعت جبهاتُ الصراع بدايةً من الهوانم ذواتِ الحسَب والنَّسب إلى الممرضات وراقصات شارع الهرم، نُوفستُ فيه معَ العاهرات والبغايا رغمًا عني، غير أنَّ "أميرة توفيق" ظلتْ على رأس قائمته المفضَّلة، وتجاوزتْ مكانةَ مومس عابرةٍ إلى عشيقة دائمة، وصندوق أسودَ لكلِّ تفاصيله، مللتُ نزواتِه المتكررةَ، وسئمتُ ضعفي، صارَ قلبي كبيتٍ خَرب تستبيحه رياحُ الشك والظنِّ من كلِّ اتجاه، أعيشُ مع رجلٍ لا يمكن التنبؤ بما ينوي القيامَ به، لا يبالي بمشاعر من حوله ولا مشاعره هو نفسه، متحجِّر القلب كثيرِ الصمت قلَّما تجده سعيدًا أو حزينًا، عندما تنظر إليه تقودُك ملامحُه إلى اللا شيء، يصلح لأنْ يكون قائدًا عسكريًّا يخوض معاركَه بلا اكتراث بمن قُتل، يبحث عن هدفِه فقط ولا شيء غيرَه، خصوصًا مع النساء والسياسة.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب