القائمة الرئيسية

الصفحات

رامي حمدي يكتب: سنوات الموت في المكان








العزيزة نورا ناجي..

كما هي العادة أكتب لك بعد كل نجاح جديد لأخبرك بما عجز لساني عن قوله حتى لا تتأثر كتاباتك بتجاربي. ربما لأنك تقعين في دائرة أماني فدائما أراهن على أنك ستكتبينني يوما ما. لقد ربحتُ الرهان حين قرأت المسودة الأولى لروايتك الأخيرة "سنوات الجري في المكان". لن أتحدث هنا عن تقنيات الكتابة، أو استخدامك للفنون المختلفة ما بين اليوميات والمسرحية والرواية وطرح رؤية الشخصيات مع الأصوات والألوان والمذاقات. شهادتي مجروحة لهذا سأترك تشريحها والإعجاب بها أو النفور منها للقراء، وسأتفاعل معها بطريقتي وأحكي لكِ حكايات جديدة لم تسمعيها مني من قبل. 



احتفى الجميع بأنها رواية تتحدث عن ثورة الخامس والعشرين من يناير. أخذوها من الجانب السياسي دون أن يقولوا أنكِ لم تقعِ في فخ الثورية واللطم والنحيب. هنا حديث عن ما فعلته الحياة بجيل يجمع -عن غير رغبة- الأحداث العجيبة كما فعل الأجداد مع العملات والطوابع البريدية النادرة. حين قرأت فصل الانتباه إلى الصوت تذكرت حين سمعت لأول مرة صوتًا يشبه انفجار الإطارات في يوم الثامن والعشرين من يناير. أتابع قناة "سبيستون" بينما أخي في الجيم في الجانب الآخر من طنطا. أمي وأبي في السعودية لا يعرفون عنا شيئًا لأن الاتصالات مقطوعة.


مساحة إعلانية


الصوت جعلني أشعر بخطر ما. لم نكن نملك مرجعية لتفسير تلك الأصوات وما تليها من مشاعر، كانت رغم كل شيء براقة تحمل بهجة البدايات. ارتديت ملابسي وخرجت أبحث عن أخي وسط الشوارع الخالية المظلمة. أنفي يحرقني وصدري مكتوم والدموع تسقط دون سبب وعقلي متوقف. ثم أصاب وجهي "كف" أنزل ستارة سوداء أمام عيني.


كانت هذه اللحظة هي ذروة الانتباه. الصوت طلقة رصاص حي، والكف قنبلة دخان أصابت وعيي في مقتل. الموضوع كان أكبر من الهتاف أو السياسة. أوجه جديدة من الإدراك تحبو بداخلنا. صوت وصفتي أثره بدقة:


"الهتاف الذي يخرج من القلوب لا يشبه صوتًا، أو ربما هو صوت الخالق، أو هو الخالق يتجلى أمامك في ذبذبة، فتخر صعقًا" الآن أسأل كيف يمكن لهذا الصوت أن يكون أجندات خارجية؟ صوت الأغاني في تلك الحقبة كان مختلفًا كالنوايا "شيء شرير وطيب، حنون وقاسٍ، سيطرده من الجنة لكنه على الرغم من ذلك سيمنحه بشكل ما وطنًا جديدًا". 


ثمانية عشر يومًا عشناها كما كتبت ياسمين السيد في مذكراتها التي عنونتيها "كل القطط الميتة". نحن تلك القطط البشرية. عرفنا مذاق الموت في بداية تلك الأيام حتى مرت أول دبابة من أمام بيتنا لتمنحنا مذاق الدفء من برد شتاء يناير وتزيح مرارة مذاق الخوف. كتبتِ عن مذاق الذكرى الذي نعيشه بعد مرور السنوات "طعم لا يمكن الإمساك به، لأنك في نهاية العمر، وحدك في مواجهة الأشباح والوحدة". أحيانًا كنت أشاهدك تسرحين في وجهي أثناء الكتابة.




هل كنت شفافًا أمامك لتصفي ملامح وجهي التي علقت في مذاق اللا شيء؟ "أن تفقدي قدرتك على التذوق يعني اقترابك من النهاية هناك بعد حدود العالم وبعد أن يتساوى كل شيء ستعرفين أن لا شيء يستحق، وأنك ركضت طويلًا من أجل اللا شيء، وأنك احترقت وتعبت وبكيت وقاومت لأنك تمسكت بطعم فرح ضئيل يشعلك للحظة ثم يتلاشى." المذاقات والأصوات والذكريات أصبحت قوائم. وأنا كنت أكتب قوائم أخرى لم أحكها يومًا".



"مين خطه كويس وبيعرف يكتب"

رفعت يدي لأكسر ملل الرحلة. أشار لي الرجل فتبعته لأكتشف للمرة الأولى زهوة السلطة. على طاولة أنا رابع الجالسين أعطاني الضابط المسؤول قائمة فارغة وقلمًا وكروتًا ملونة. فهمت أننا سنسحب من تل جوازات السفر الموجودة أمامنا لنكتب قائمة الركاب التي سيرسلونها بالفاكس للسلطات لاحقا. الكارت الأخضر للمصريين والآخر لغيرهم. أصبح هذا الفعل عادة لي مع كل رحلة، تتغير الأسماء وصور الوجوه المبتسمة التي لم تحنها الغربة عكس الحقيقة. لكنني لا يمكن أن أنسى خطي المنمق وأنا أكتب أمام خانة الناقل مرة "السلام 98" وأخرى "سالم اكسبرس"! غرقت الأولى في الرحلة التالية، وغرقت الثانية بعد أشهر من رحلتي. هل نحَستُهما أم هما من ألصق على روحي طابع النحس؟

"كل نفس ذائقة الموت.. كل نفس ذائقة الموت.. أريد أن أتذكر بقية الآية ولا أستطيع.. كل نفس ذائقة الموت بما كسبت. يموت كل الناس ببساطة ما عداي. لماذا لعنت بهذا الشكل؟"

هكذا كتبتِ على لسان شخصية من شخوص الرواية. هل كنت تعلمين أنني أصبحت أخاف الموت أكثر كلما نجوت من أن أكون رقمًا في قائمة جديدة؟ حين قرأت ما كتبته على لسان سعد "ضحكت نانا عندما أخبرتها بأنني أريد تلوين حوائط المعرض بالبرتقالي. قالت: معرض عن سفينة غارقة نمنحه لونًا مبهجًا مثل هذا" ضحكت أيضًا. كل سترات النجاة في السفينة كان لونها برتقاليًا مبهجًا.


المواسير المهمة لونها برتقالي أيضًا، وحين سألت عن سبب اختيار اللون قيل لي حتى تلفت النظر لو غرقت السفينة فتقل قائمة الموتى! تذكرت البولمان والكبائن ذات السريرين بحمام ضيق خانق، سطح السفينة الذي يفترشه أناس بعمم صعيدية وأثواب بيد واسعة. روائح الجبنة القديمة والشيبسي والشنط والسيارات. العجل المربوط ببطانيات مورا الثقيلة، والغسالات المشحونة التي دفع الناس ثمنها عمرًا حين قرأت: "كره أبي الإنحناء، لكنه انحنى ذات يوم عندما قَبِلَ بالغربة، وانحنى عندما قَبِلَ العودة في عبارة رخيصة، وانحنى عندما قفز منها دون سترة إنقاذ. لم يمت بطلًا، لم يكن بطلا. كان رجلا مسكينا مات وحده".



"راحوا الحبايب وسابوني .. إيش أسوي يا عين
أخدوا الفرح من قلبي .. وخلوني أبكي حزين"


انتظرت هذه الأغنية ببحة صوت عدوية ضمن أحداث الرواية. تبدو وكأنها عامل مشترك غير متفق عليه لهذا الجيل. تفسيرك للفقد كان عبقريًا. "صوت الأحباء ملاذ ومأمن، في لحظات الهشاشة تسترجعه كتراتيل مقدسة". الموت قاتل متسلسل للأحياء يا عزيزتي. ماتت أمي التي كانت ترتدي كمامة في جلسات الكيماوي، ومات أمامي أصدقاء مختنقين خلف كمامة مبللة بالخل شاهدتهم بالكاد وسط غيوم الدخان الرمادي ليلا والأبيض نهارا، ومات في غرف العناية المركزة الكثير من "الحبايب" صلينا عليهم فرادى بالكمامات قبل أن نغتسل بالكحول أو نُجرِي مسحات سلبيتها حياة.


اختبر جيلنا الموت بطرق متنوعة وفي الخلفية تتردد جملة مثل الأفلام الساذجة: "موت الحبايب مش آخر الدنيا يعني!". أنصفتنا كلماتك وكأنك تربتين على كتف كل فاقد "يبدو أن نسخة لي ماتت لحظتها، ربما في بعد آخر رميت نفسي مع أبي أسفل الأرض، تسللت إلى قبره وتركتهم يهيلون علينا التراب، رقدت إلى جواره، ووضعت رأسي بين رأسه وكتفه على الرغم من الكفن الأبيض، طوقت ذراعي حول صدره ونمت، نمت ولم أستيقظ".



لم أرى فصل الحلاق والملك سوى أنه اسقاط ساخر على ما عشناه. مسرحية من الكوميديا السوداء تحمل روائح الدم والعرق وخفقان القلب والدموع. نحن نتبادل نكاتًا مفادها انتظارنا لظهور التنانين أو نزول النيزك أو المسيح الدجال أيهما أقرب ليسدل الستار على كل شيء مررنا به خلال عشر سنوات من الجري في المكان. ثورة أصبحت وصمة، وورد تفتح في جناين مصر جرفه المنتفعون مع سبق الإصرار والترصد، ومشاعر تغلف مرارتها "الميمز".


انكسارات لم تفلح جلسات العلاج النفسي وحبوب مضادات الاكتئاب في جعلها نسيًا منسيًا. وجوه تبدلت ومواقف تغيرت أسرع من تعاقب الليل بالنهار. أحباب ذهبوا وفي القلوب مكانهم وبالأبدية سكنوا. يحيطنا اللوم واللؤم. وبعد كل هذا ابتلعنا السكوت والاختفاء. نظهر هنا وهناك في تجمعات الثقافة بكلام قليل وعيون منخفضة، ومحاولات لكتابة ما نشعر به وما حدث بنا كما فعلت نانا محاكيين عن غير قصد عنوان محاولتها الوحيدة للكتابة. كَتبنَاهُ َفكَتَبتنَا. "كمثل تمثال في الشرفة".


أجمل وأصعب ما في الكتابة التمكن بخفة من فن المكاشفة. هذه الرواية تجربة قاسية وملهمة لي شخصيًا ليس فقط كقارئ، ولكن بصفتي الشخص الذي كان يحرضك على كتابتها. رواية ولدت بين يدي. لم أعد أستطيع السيطرة على دموعي يا نورا وأنا اكتب هذه الكلمات فمخزوني وطاقتي قد نفذا. لكنني فخور بك وبكل لحظة عشتها أثناء تكوين النص بكل ما فيه من نقاش وتغيير وقراءة وثقل بثته حروفك في نفسي. وسأظل أذكر تلك اللحظة التي ضغطت فيها زر الإرسال حاسما ترددك لإرسال مسودة الرواية إلى دار الشروق بمنتهى الاعتزاز. "لآخر نفس فيا بنادي بأموت وأنا باحب بلادي.. يا بلادي يا بلادي أنا بأحبك يا بلادي" تدوي في خلفية عقلي مصحوبة بناي حزين مع صور الشخصيات المتخيلة التي ماتت حواسها شهيدة وأنا أقرأ روايتك التي حملت على عاتقها إنصافنا، أو حتى توضيح ما شعرنا به، وتذكيرنا بتلك السنوات التي صمدنا أمامها أو هكذا كنا نعتقد..

سنوات الموت في المكان


تعليقات