القائمة الرئيسية

الصفحات

 


عبد الرحمن إبراهيم


بدءا من اختفاء الشيخ في رواية الصنادقية -الصادرة عن دار العين 2023- يضعنا الكاتب يوسف الشريف أمام سردية مركزية، محركها الأساسي هو اختلال في نظام المكان، هذا ما يوحيه العنوان من البداية، ورغم أنها تبدو كذلك للوهلة الأولى، إلا أنها محض اختلاق للخرافة، يؤسس بها الراوي مساحة للولوج إلي الحكاية في الهامش، ويصبح المتن فعل تعرية لبناء مجرد من الإشكاليات، تقف فيه الشخوص في مواجهة أساسها المختل ونشاءتها المشوه.


الصنادقية هي حارة ضيقة اتسعت رقعتها لتشمل الجميع، ودليل الوجود الوحيد لتاريخ ساكن منذ الأزل. هنا يقدم الكاتب الوجود بمتغيراته، تبدأ من خلق الحكاية وتستمر حياكتها إلى النقطة التي ستنتهي منها، لكنها لا تموت حتى في فناء أجساد أصحابها وإن اختلقت من عدم أو من فرضية غير صحيحة وإن كانت الوحيدة! 


هي رواية الثنائيات المضادة التي لا تؤمن بالمطلقات، النقص والكمال، الحقيقة والخرافة، الشك واليقين، الثابت والمتحرك، الخير والشر، ومفارقات لا تظهر ما يجول في أعماقها من صراعات، لا تشكل عند متلقيها إلا مفارقة مربكة تدفعه إلي سؤال قد يحدث خللاً في وعي تم تدشينه تبعاً؛ بالفترة.





مراوحة بين راويين


هناك تنقل بين راويين أساسيين، حيلة لاستكمال نقص ما عند الراوي العليم، وتبدو الحكاية في ظاهرها قد استهلكت في تأويلها من وجهة سارد ونظيره الأساسي، مكتفياً بلعبته تلك باستمالة عقله إلي فخ الإحالة لأحد ساردين، ومستغنياً بها عن الأقواس من البداية، وكأنه يوقظ عقله متغاضياً عن خطورة وقوعه في التيه. 


ومن هذا المنطلق قد تفنى سردية وتبقى أخرى، ويمكن أن تنشأ عنهم سردية ثالثة -دخيلة على النص- تخص المتلقي باعتبار الحكاية المركزية اختلقت من بيت الخرافة أو أن الإشكالية محض تأويل لوعي قاطني المكان، ولأن الحدوتة في الأصل تخص الجميع، سيشرك المتلقي كجزيء من سياق مقتطع من حكاية الفرد ويصطدم بها مع أسئلة الكل.


القداسة محض إشكالية


توضع الإشكالية موضع المسألة، بداية بما نلبسه ثوب القداسة، كشيء من المسلمات، تضبطه في صعود الشيخ مالك لخطبة الجمعة، بدون زي الأزهر مخاطباً للمصلين كشخص عادي قد فقد نقاءه، أو حيلة لإخضاع الواقع بوجوده، مثل فرج أبو سيف وقد وقع ضحية الإيهام بالشكليات، إلا أنه أصبح فيما بعد تأثيره يخترق هامش الوعي الجمعي، حين يظهر بعباءة أخرى وقد لوثتها سوءة الأهالي، بدءا من عزاء الخرافة، والحقيقة -فرضا إذا ظننا ذلك- أن المعرفة سلاحاً قد يقتل صاحبه وتصبح جريمته الوحيدة. وللمفارقة قد يؤمنوا بالثوب ويجهله الخطاب، فلا يمثل هنا حاجة لسد أخرى مدركة لحجم المسألة التي تخص كل من الفرد وذاته وصولاً للاصطدام بها في المجتمع والموجودات.  


نكسة الجمود الفكري


هناك سؤال الهزيمة حاضراً أمام سخرية الواقع ومفارقاته، حيث تسلك الأحداث طريقها تبعاً نحو ما خلفه سؤال كل فرد لذاته، بدءا من حسين أصلان المضطرب في ميولة الجنسية، وصولاً إلي الشيخ فرج أبو سيف وقد تهدمت صخرة كبيرة حملت على عاتقها، سخرية ما آلات إليه الأمور.


ويبقى لبعض الشخوص قصيده رثاء أخيره تحاول بث الحياة في جثمانها، في لحظة ما تشعر بالحرية، بعد أن تحررت من سلطة بترت أجنحتها رجعية الأثر الفكري والثقافي والاجتماعي، وقد رأوا ملامح الثورة والتمرد بهيئة طفل ولد بعد طوفان أبتلع الذاكرة في قاعه.


عزاء الضحية والجلاد


تتبنى الشخوص انحرافاتها التي ولدت بها في النشأة، بالإكراه، تحت سلطة الأبوة والأمومة، وبدء من رتق نتوءات خلفتها تسليعهم، بمسمى  الطاعة، أضحت أجسادهم قيمة رخيصة للشراء، تحاول الاستمرار في بناء حياتها على أساس غير واضح؛ إلا أنهم يسلكون طريقهم نحو التمرد. أما على الجانب الآخر تبقى الأوعية فارغة، لذا فقد سقطت الأقنعة في الهاوية، حين اصطدمت بالحقيقة التي انتزعتها من عتمتها، وعادت إلى خلخلة المسلمات التي راحت في لحظة إدراك إلى طائر قد فقد وجهته!


يضعنا الفن بأدواته، كفعل للتحريض والمسألة، هناك رواية أخرى لم تقدم لإثبات الحقيقة، لأنها في النهاية ستبقى محض سؤال إجابته غير شافية إطلاقاً، وهذه قيامة أخرى تحاول الرواية مجاراتها، هي الصورة الحية، للفرد إذا كان ضحية أو جلاد، أن وجودنا هو نفسه رحلة معرفة وسؤال.


بحر العبيط: الحقيقة الواضحة والمباشرة


كمن يبحث عن نبوة مفقودة، كان بحر العبيط نذير ما قبل الطوفان. الهارب من السلطة بفعل المراوغة، والناجي الوحيد في عالم يتداعى، هامش الحارة، صاحب خطاب لم يعي الجميع مكنونه، وقارب النجاة الأخير قبل الغرق.


من هذه الفرضية تبنى سردية أخرى تحمل انعتاقاً عن الشكل الثابت التي سارت علية المروية من البداية، هناك اختفاء أدركه الجميع وآخر لم يدركوه، وحين ظهر؛ في عالم مليء بالنزعة المطلقة تجاه السياقات، تغيب فيه قسراً الوعي بالكارثة.


الحدوتة هي أن الجنون أصبح إشكالية مبهمة، والعاقل الوحيد لن تدركه إلا بعد الكارثة، حيث بعد الانفجار، تستقر كل مفردة في سياقها.


تعليقات