القائمة الرئيسية

الصفحات

"كل يوم تقريبا".. حيلة كاتب السيرة الذاتية بين الهروب والمقاومة



عبد الرحمن إبراهيم


(١)


الكتابة في أصالتها، فعل تعرية – خصوصًا إذا كان العمل سيرة ذاتية – لإظهار جانب شخصي غير مدرك عند الآخر بثيمة البوح، ولكن سيسخر السرد هنا لمسار حكي حدث سلفًا بفعل الذاكرة، ونكون أمام رابط مباشر بين الكاتب والقارئ، يسقط فيه طموح النص؛ للجوء إلى قالب تجريبي يرضي حاجة الفنان في التنقيب عن شيء مجهول لم يكتشف بعد، أو إظهار مجرد ما لتعرضه للغة تعرف بوصلتها جيدًا، ناهيك عن الرغبة في خلخلة الجوانب المتعلقة بالنزعة الأخلاقية، إذا كانت أرضًا شائكة وموضعًا للتساؤل.


لكن في رواية "كل يوم تقريبًا" للكاتب محمد عبد النبي، الصادرة عن مركز المحروسة 2023، يعي الكاتب بصنعته جيدًا من البداية؛ كاشفًا عن أدواته بالحكي في سياق فني يضعه على عتبه الخوض في تجربته، بدون خلل في المتن، كمفتاح لنصه، بداية من شخصية مختلقة على حسب الرواية المنعوتة بذلك من قبل أحد الرواه، وصولاً إلى صدقها واقعيًا حسب الكذبة الروائية.





يبدأ الفصل التأسيسي للنص، بمشهد يدل في صيغته على خبر منقول من وسيط لبطل الرواية «فؤاد»، بكلب أصفر يشاركه فراشه، وكأنه يوقظ عقل المتلقي لمشهد فادح الرمزية خاصة وأن شخصية البطل "فؤاد" سيرةً مختلقة في أداة النص، لكن الحقيقة فرضًا، إذا لم يعي المتلقي الأحداث التأسيسية من البداية، لوقع ضحية الحكي في الظاهر، وستبنى القراءة على فعل تراكم الأحداث بالفترة، أو أحكام القارئ على صاحب المذكرات الحاضرة بين يديه.


(٢)


ينجو محمد عبد النبي بطريقة مدهشة بنصه؛ ليكسر قالب السيرة الذاتية، ويضع عمله في مقاربة جديدة للشكل التي تقوم عليه نصوص السيرة، فهنا شخصية ينفي وجودها، راوي يتجسد في مجرد ما، هناك رواية هي محض مسودة غير مكتملة، تمثل هاجس الكتابة، الذي يمتهنها البطل بالفترة نفسها، وكأن مشروع الرواية في مسودته الأولى؛ قائم على كتابة أحجية مقتطعة من سياقها، ولكن هناك مراوحة قائمة بين راويين، الأول هو «المعنون هنا بفؤاد» والثاني «فرقة من الأشباح تمثل وسيط المحكية»، تتنقل تلك الوسائط عبر الهواجس، يمكن ربطها في علاقة البطل بنفسه، كميله إلي الشذوذ في رغبته الجسدية، أو في سلوكه وبيئته المليئة بالصعلكة، أو علاقته بمختلف الأديان والمذاهب والتيارات السياسية، وتقلبات هويته وانتماءاته، والتنقل من مكان إلي آخر، وصراعه مع رغباته بين المكبوتة والمحققة، لكن يبقى الشبح الذي يسكن كل تلك التقلبات والأطياف والمحوري في كل الأحداث تقريبًا، شبح رئيسي «هو الشبح رقم ستة».


"كان رقم ستة بداخله يتغذى ويقوى ويبسط جناحيه. ثم عرف فؤاد الطريق إلى الأدب والكتب والندوات والمقاهي، فطلع لرقم ستة مخالب وأنياب وصار منقاره منسرًا قاطعًا".


يذكر أحد أشباح الكاتب – مشيرًا إلى حاجز ما بينه وبين لعبته - إلي الشبح رقم ستة، بسلطة تتعاطى مع النص بفعل الإخضاع، هي رغبة الكاتب؛ هناك رواية حاضرة أمام القارئ، المنعوتة هنا «كل يوم تقريبًا» ورواية أخرى تستمد قالبها لتوجد، يكتبها بطل هو محض مسودة في رواية.


"أكثر ما يخشاه رقم ستة هو الصمت، وأشد ما يعشقه هو الكلام، أن يتكلم هو تحديدًا ، ولو لم يسمعه أحد بالمرة، ولو لم يسمع هو نفسه، و فكأنه يموت إذا توقف عن الكلام؛ إذ يشل ويتجمد ويصير عدمًا حتى يعاود الكلام من جديد"



(٣)


لعل هاجسا مفقودا في الترجمة يطارد «محمد عبد النبي»؛ لأن بطله هنا يمارس فعل الترجمة، وقد يشعر أحيانًا وإن لم يكن واضحًا لحد ما، أنها فعل سلطة تحد من رؤية الكاتب وتقييده عن ممارسة حرية فردية، تفتقد للخلق. وإن كانت مقاربة؛ تمثل النجاة والعزاء عن فقدان جميع محاولاته لمتهان عمل يتقبله، ويرضي رغبته بمحاذاة شيئًا يتعلق بالفن.


يستمر الحكي على هامش عدم استقرار البطل، يظهر هذا في لغة "عبد النبي"، بين فصوله الستة المرقمة، ينتقل بها بين تغيير الأمكنة والنشاطات والعربدة والانعتاق أحيانًا عن الذات. هكذا يرسم شخصيته، هي نصف مستقرة ونصف ضائعة، تفتقد البوصلة نحو اتجاه معين، لتنهض محكيته وتقوم على سياق مضطرب يعدو كونه مناخًا لرغبة البطل فؤاد لتحققه من محيطه ومساءلته.


"كثيرًا ما تساءل فؤاد آنذاك ومن بعد ذلك، مرةً بعد أخرى: من كانوا؟ من يكونون؟ طيورًا نادرة، حقًا؟ أم فرسان في الزمان الخطأ؟ أم بكل بساطة أرواحًا ضالة ونفوس فاسدة، بصرف النظر عن الأسباب والنتائج؟ أهم هم مثقفون ومبدعون، من الدرجة الثالثة، يمارسون تنظيرهم وفتوحاتهم الفنية من البيت والقهوة والبار، من غير أن يؤثروا في أحد أو في شيء، ومن غير ثقة كافية في أنفسهم لينجزوا شيئًا حقيقيًا".



يطلق فؤاد هنا على أصدقائه في تلك المرحلة «أصدقاء السوء»، ورغم ذلك يحاول بتلقائية أن يلتمس لهم شيئًا من العذر، بالبحث عن جوهر يحاول اكتشافه! تلك السمة التي تصاحب البطل، في كل علاقةً يخوضها في أي مرحلة تقريبًا من حياته، إذا كانت علاقة جسدية مثل علاقته المثلية مع المهندس نادر، وعلاقته مع أصدقائه ومساومتهم له، والتي يمارس كل شخص فيها فعل تعرية مستقل بذاته أمام الآخر، وصولًا إلى علاقته مع "فيفي نناه"، التي كانت تأثيرها الهامشي سلبًا وإيجابًا كون رابطًا ما في داخله.


في الفصل الأول يواجه فؤاد البطل سؤالا عن وجود الكلب بجواره، وفي نهاية العمل يتضح سبب وجوده، وكأن محمد عبد النبي، يحاول إيقاظي لشيء ما طوال القراءة، واستمر معي بعد الانتهاء. هي حالة السكر الدائمة للبطل أثناء مجابهته لفعل الكتابة، لم يعي بكيفية وجود الكلب، مثلما لم يعي بوجود أشياء كثيرة يواجها بفعل المقاومة، أو الهروب، أو الانعتاق عن الوجود، المصاحب للغته العارية تمامًا، ذلك الوجود الذي رسمه عبد النبي لبطله قد أصابني بدهشة طوال القراءة، ليس من فداحة أفعاله، أو صراحته وانتزاع جميع القيود التي تكبله، لكن الصدق، أعي تمامًا أن تلك المفردة من فرض استهلاكها، قد تكون مبتذلة تقريبًا، لكن ما لن أقوله قط أني رأيت معناها مجردًا بدون تخفي أو ثوب أو مبرر للهروب، لم يهرب البطل فؤاد من مواجهة قارئ مذكراته، بل طوال الوقت يهرب من نفسه بزجاجة هي محض مفتاح لباب مغلق؛ يحاول محمد عبد النبي طوال الوقت، الولوج إليه. سيظن القارئ أنها محض مسودة في رواية ينفي كاتبها وقوع أحداثها كاملة وأنه اختلط عليه الواقع منه الخيال؛، أو أنها قراءة متخيلة، لشخصية دخلت بالخطأ واقعه!

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات