لعامين متتاليين وبعد بلوغ سن المعاش، يخرج الأستاذ عبد البصير من داره كل يوم إلى وجهة لا يعلمها سواه، يعود في المساء في هدوء، مثلما خرج تماما، فهو أفقر الشخصيات بهذا الحي ظهورا، لا تلمحه الأبصار ولا تسعى وراءه لأي هدف كان، فهو سجين بيته المتهالك وأعوامه الاثنين وستين، لا يعرفه أحدا سواهم. كان ذو بشرة سمراء، تزداد شحوبا يوما بعد يوما، زارها التعب يوما منذ سنوات طوال ورفض الرحيل، تمسك به أكثر من غيره، وأخذ ينهل من وجهه حتى بدا وكأنه تجاوز الثمانين.
كان لعبد البصير جسد هزيل، بدا جليا من نحافة رقبته الطويلة بعض الشيء وشكل ذراعيه، أما سائر جسده فقد تعمد اخفاءه بثياب واسعة فضفاضة لا تناسبه ولكنها كانت ترضيه، تشكل له حصنا وهميا كبدانته المزعومة، يسير مطأطئ الرأس وعند إلقاء التحية على أحد الجيران يكتفى برفع يديه ويتمتم بـ "السلام عليكم" الخافتة تلك التي لا يسمعها سواه، يخرج من بيته قاصدا كل مكان لا يعرفه فيه أحد. يسير على قدميه لمسافات طويلة، يكتفى بالتأمل وتحريك رأسه في كل اتجاه مستقبلا هذا المكان الجديد بعينين جاحظتين عطشى، تريد أن تنهل من مفاتن تلك الحياة بلا توقف، تلك العينين اللواتي أجهدتهما ظلمة ذلك "القمقم" الذي قبعت به قرابة الستين عاما، لتنحرف اليوم عن طريقها فى غير رجعة.
يتفادى المرور من أمام المدرسة التي عمل بها لأربعة عقود خشية أن يراه أحد الزملاء القدامى فيسأله عن أحواله أو يخبره باسم ناظر المدرسة الجديد الذى لابد وأن يزعجه التعرف عليه، فكل شخص غيره هو بالتأكيد غير كفء بهذا المنصب، فلم يفنى عمر أحدهم بهذا الكيان البالي مثله، ولم يلق أحدهم الأمرين محاولا إبقاء فصوله تحت السيطرة دون جدوى مثله، ولم يسكت أحدهم عن تجاوز دوره فى الترقية إلى مدرس أول ثم موجه ثم وكيل مدرسة غيره. كيف له أن يلقاهم فيعيدون على مسامعه كل أمر من شأنه أن يزيده حنقا وكراهية لنفسه.
هو في أفضل حالاته وحيدا، اكتفى من الناس وهم اكتفوا منه وإن لم يشكل غيابه عنهم ذلك الفارق الكبير الذى يظنه، فكثيرا ما تخيل طليقته تعود إليه نادمة على قرار الانفصال، الذي اتخذته منذ عشرين عاما، ترجوه أن يرضى عنها ويعيدها إليه، تخيل كلماتها ليلة بعد ليلة "كانت غلطة ومش حتتكرر ياعبده، سامحني، هو أنا وحسام نقدر نعيش من غيرك؟!"، كما تخيل رده، فمرة يصر على طردها فى عنف لم تعتده، وفي مرة أخرى يجالسها ويستمع إليها ليقرر عودتها على مضض من أجل مصلحة ابنهما، وفي كثير من المرات يصرخ فيها "أنا اللي ربنا بيحبني عشان طلقتك، أنا الكسبان". توالت التخيلات دون أرض صلبة تستند عليها فبهتت وتلاشت مع الأيام وسناء لم تطرق بابه أبدا كما تمنى، فاستقرت وابنها بأحد الشوارع المجاورة ولغرابة الأمر لم يلمح أيا منهما طوال هذه السنوات، ربما لأنه لم يجرؤ على المرور به يوما.
اختار اليوم الجلوس بأحد المقاهي ليشاهد إحدى المباريات والتي يتعذر عليه مشاهدتها بالمنزل، يجلس في أبعد ركن بالمقهى ولكنه يختار الزاوية التي تمكنه من الرؤية بشكل جيد، شيئا فشيئا ازدحم المقهى، وصارت الزبائن يتقاسمون الطاولات في فعل طبيعي معتاد في مثل تلك الظروف، فجلس أحدهم إلى طاولته لتتوالى الأسئلة "هو الماتش لسه مبدأش ولا ايه؟"، هما مش قالوا مدحت شلبي اللى حيعلق ع الماتش !"، اكتفى عبد البصير بالإجابة في أضيق الحدود وحين تمادى جليسه في السؤال والمزاح وأصبح ادعاء عدم الاكتراث أو الصمم مستحيلا، فترك المقهى ورحل لينتظر خارجه عله يسمع صيحة ما أو تعليقا يخبره بما آلت إليه الأحوال، ليعود إلى بيته الكئيب في خطوات سريعة تتخفى من أشباح لن تراها أبدا، ولا تعرف عن وجودها فوق سطح هذه الأرض شيئا.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب