القائمة الرئيسية

الصفحات

حصريا.. ننشر فصلا من كتاب "مطبخ مصر" للكاتب معتز نادي

كنت مشغولاً بصيد الاستاكوزا

 



هذا العنوان ليس لي، فالعبد لله لم يمارس هواية الصيد في حياته حتى وقت كتابة تلك السطور، فالقصة ستعرف بطلها في ختام هذا الفصل السمكي!!

 

وقبل الخوض في تفاصيل القصة فينبغي توجيه التحية والتقدير إلى كل «ست بيت» تخرج من شقتها روائح السمك المقلي أو المشوي دون «زفارة» تقلب المعدة وتجعلك تفر كهروب اللصوص من البوليس.

 

فنظافة السمك تجعلك مطمئن القلب سعيد الحال والبال حين تتناوله ساخناً خاصة لو كان هواء الإسكندرية مصاحباً لك عند تناول هذه الوجبة.

 

والسمك هو الوجبة الشعبية الأولى لدى أهل الوجه البحري في بلادنا المحروسة، فتتعدد أنواعه وأصنافه وطرق طهيه، فخذ عندك على سبيل المثال لا الحصر أن «الجندوفلي» يأكله البعض نيء، والبعض يفضل تناوله بعد تشويحه على النار وإضافة القليل من البهارات والثوم والليمون عليه ويدمج كل ذلك في معدته مع طبق سلطة طحينة معتبر.

 

في أوقات المصايف، لا يمكنك أن تغفل زيارة «حلقات السمك» أو بمعنى آخر ما يمكن تسميته بالأسواق العامرة بخيرات الله من اللحم الطري، وفي الخلفية عند تحركك أصوات الباعة تغريك لشراء «السمك الصاحي»، لتبدأ قائمة اختياراتك وتشمر ساعديك لتناول سمك البوري «سنجاري» والملوخية بالجمبري والسبيط المقلي، بالإضافة إلى ما لذ وطاب من شوربة فواكه البحر.

 

والأسماك في مصر تتواجد في البحرين الأحمر والمتوسط، بالإضافة إلى نهر النيل الذي انشغل الاحتلال الإنجليزي بدراسته ومعرفة طبيعة الحياة الخاصة في مياهه العذبة.

 

وخلال بدايات القرن العشرين، عرض عالم إنجليزي يدعى مستر جوش نتائج دراسته عن الأسماك النيلية، ومنها سمك «الرعاد» أو «الرعاش» بسبب خروج الكهرباء من جسده، قائلاً: «إن الكهرباء تتولد في جسم السمك الرعاد، وموجودة في بدنه وتحيط بجلده، فإذا أمسكت السمكة تأثرت الأعصاب، فيحدث فعل يجعل الخلايا تخرج من الكهرباء حيث تجري الكهرباء في السمكة كلها، من رأسها حتى ذيلها، ويسير ما حولها فيصرع، ويميت السمك الصغير، ويشعر بقوته الإنسان حين يقوم باصطيادها».

 

الصحف المصرية حينها سلطت الضوء على الأمر وقررت البحث والتعمق تاريخياً في أصل سمكة «الرعاد»، لافتين إلي أن «قدماء المصريين قاموا بتصوير السمكة التي تخرج منها الكهرباء في مقابرهم، مثل تصويرها في أحد المقابر في سقارة، بل أشار لها الكتاب المقدس في آياته».

وللفراعنة حكايات مع الأسماك منها أن سمكة قشر البياض حظيت بالتقديس لديهم وعملوا على تحنيطها لتكون بصحبتهم في العالم الآخر بتواجدها في مقابرهم الأثرية.

 

ولم يكتف الفراعنة بتقديسها فحسب، بل قرروا تحريم أكلها، فيما تشير الروايات إلى أن قيام الإنجليز بنقل سمك قشر البياض إلى بحيرة فيكتوريا ووصوله منها إلى نهر النيل في العصر الحديث أدى بمرور الوقت حينها إلى «قلة أسماك البلطي في دول حوض النيل؛ نظرًا إلى أنه من الأسماك آكلة اللحوم، فقد افترس الكثير من الأسماك».

 

ومن «الرعاد» إلى قشر البياض والبلطي، توجد حكاية عن سمك البوري الذي جاء إلى نهر النيل من البحر المتوسط، ووصل إلى أسوان، وحظي أيضاً بالتقديس، إذ اعتبره القدماء «رسولًا من الفيضان، ومبعوثًا من الإله حابي، وكان من ضمن الأسماك المحرم أكلها والتهامها أيضًا، مثل سمك القرموط، وسمك القط والفش (قشرة البياض) وغيرها، حيث كانت هناك أنواع من الأسماك ينظر لها المصري القديم بعين من التحقير، مع نظرته لبعض الأسماك بنوع من الاحترام».

 

ورسوم الفراعنة على مقابرهم تكشف عن درايتهم بتقنيات صيد الأسماك، إذ شاع بينهم كهواية لتصبح بمرور الوقت مصدراً لتعلم الصبر والتأمل.

 

كما صنع المصري القديم قوارب من القش، بالإضافة إلى الصنانير، والحراب، والشباك، والسلاسل الواقية المصنوعة من فروع الصفصاف، بينما في عهد الأسرة الثانية عشرة، عرفت مصر الصنانير المعدنية ذات الأشرطة.

 

وللفراعنة طريقة خاصة في الصيد، إذ يضربون السمك على رأسه ومن ثم يصبح وجبة شهية تستعد للطهي والتقديم على المائدة.

 

الاستزراع السمكي عرفته مصر منذ القدم، وهو عبارة عن تنمية أو تربية الأحياء المائية في مزارع واسعة الانتشار في قلب دلتا النيل، في محاولة لزيادة الإنتاج بما يعود بالنفع على البيوت المصرية بأسعار مخفضة.

 

وهناك رسوم موجودة على مقابر فرعونية قديمة يرجع تاريخها إلى أكثر من 2500 عام قبل الميلاد تكشف عن حصاد البلطي من الأحواض السمكية، لكن رحلة المزارع السمكية بشكلها الحديث في مصر بدأت منذ ثلاثينيات القرن الماضي بالاعتماد على أسماك الكارب المعروفة في الأوساط لدينا باسم «المبروك».

 

وخلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، بدأ استزراع الأنواع البحرية مثل القاروص الأوروبي، الدنيس، سمك موسى، اللوت، والجمبري.

 

بمرور الزمن، وتحديداً في عام 2018، كشفت دراسة مشتركة لباحثين من جامعتي جورج أغسطس، ويوهانس غوتنبرغ الألمانيتين عن أن تاريخ الاستزراع السمكي في منطقة جنوب الشام يعود إلى 5 آلاف عام.

 

وباستخدام نظائر الأكسجين، تمكن الباحثون من تحدي عمر العينات التي عثروا عليها في 12 موقعاً أثرياً من فلسطين ولبنان والأجزاء الغربية من الأردن.

 

فقد وجد الباحثون عظاماً لأسماك نيلية مثل القرموط والبلطي والبياض، فيما بينت الدراسة التي نشرتها دورية «نيتشر» أن نتائجها تشير إلى دلائل وجود تبادل تجاري بين مصر وجنوب الشام منذ زمن بعيد، بما سمح باستخدام أسماك نيلية في الاستزراع السمكي بتلك المنطقة.

 

ولا يمكن نسيان السمك في يوم الاحتفال بـ«شم النسيم»، إذ تفوح من البيوت روائح الفسيخ والسردين والرنجة، وتكتظ الحدائق بالزائرين الذين افترشوا الأرض ومعهم البصل ضيفاً لزوم هذه الوجبة الدسمة التي تحذر منها وزارة الصحة بشكل سنوي لكن الانتصار يكون للأسماك المملحة.

 

بالعودة إلى سبب عنوان هذا الفصل، فالقصة صاحبها الرئيس المصري الراحل محمد نجيب حين كان يشغل منصب محافظ البحر الأحمر وجاءت له إشارة لاسلكية تطالبه بإحضار أصناف من الاستاكوزا لأجل خاطر عيون الملك فاروق.

 

وكان التجاهل رد فعل نجيب على رسالة القصر، مما أشعل الغضب في نفوس حاشية الملك وقرروا انتهاز لحظة مناسبة يظهر خلالها الرئيس المصري الراحل مقصراً في عمله، وذلك بعد ورود إشارات عن حوادث عادية بالمحافظة ربما لا تستدعي أي اتهامات بالتقصير والإهمال، فوجهوا له اللوم والسؤال: «أين كنت حين حدث كيت وكات؟»، أملاً في تأديبه على فعلته.

 

فما كان منه إلا رد قصير في رسالة رسمية من 4 كلمات: «كنت مشغولاً بصيد الاستاكوزا»، في سخرية منه على موقفهم، فكان القرار بعودته إلى الجيش مرة أخرى ليكون له دور بارز فيما بعد خلال ثورة 23 يوليو 1952.



** كتاب "مطبخ مصر" صادر عن دار معجم للنشر والتوزيع، للكاتب والصحفي معتز نادي



للتواصل مع الكاتب من "هنا" أو من خلال التعليقات

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق

إرسال تعليق

شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب