القائمة الرئيسية

الصفحات

الصائد صفر.. عن المعاناة النفسية للناجين من ويلات الحرب




محمد أحمد خليفة


طائرة مقاتلة يابانية من طراز ميتسوبيشي، يركبها طيار واحد، استخدمتها القوات الجوية الإمبراطورية اليابانية في عمليات انتحارية أثناء الحرب العالمية الثانية. هذا هو محور أحداث رواية "الصائد صفر"، للكاتبة الفرنسية باسكال روز.


اللعنة على الحرب. اللعنة على البشر الذين تجذر الشر في أعماقهم، فقاموا بإشعال الحروب بين البلاد، فترملت النساء، وذاق الأطفال الصغار مرارة اليتم، وخسرت الأمم زهرة شبابها في أتون المعارك، وحتى من عاد منهم لوطنه سليمًا في البدن أو به عاهة ستلازمه مدى الحياة، لم ينج من عذاب النفس ولوثة الجنون التي أصابته من طول ما شاهد وعايش من الفظائع والأهوال التي حاقت برفاقه أو بالأعداء على حد سواء. اللعنة على القادة الذين يوقفون أموال أوطانهم على الحروب والعدوان على الأمم والشعوب الأخرى، بدلًا من أن يطوروا وينهضوا بمجتمعاتهم ودولهم، ويدفعون بثروتهم البشرية في نيران القتال لتحقيق مطامعهم ومصالحهم الشخصية من التوسع والاستعمار الغاشم الآثم، فيظلمون شعوبهم والشعوب التي اعتدوا عليها، ويأثمون من الأوزار ما لا ينفعهم معها كل ما يحققون من انتصارات هي للزيف أقرب منها للحقيقة، والهزيمة أجدر ما توصف به، فلن ترضخ الشعوب التي غزوها للأبد، ولابد للنصر الظالم من هزيمة منكرة ترده على أعقابه، وتعيد الحق لأهله ولو بعد حين.


إن القارئ الحصيف المتأني، الذي يطالع حقائق التاريخ بعقل مستنير وفكر متدبر متعمق، ليدرك أن الإنسان منذ خلقه الله في هذا الكون لا يقر على قرار، ولا يهدأ للسلم والحياة الهانئة الوادعة، فهناك في أعماقه بذرة الشر التي تجعله يعتدي على من حوله ليظل الأقوى والأفضل، وليكون الأكثر مُلكًا وسطوة وهيبة. وفي الكتب التي طالعتها في الفترة الأخيرة ومنها كتاب "منمنمات تاريخية" للأستاذ "سليمان مظهر"، وكتاب "هدم الإسكندر" للأديب والباحث التاريخي الحر الأستاذ " رامي رأفت"، وكتاب " حيونة الإنسان" للأستاذ والأديب "ممدوح عدوان" وغيرها من الأبحاث والدراسات، وجدت أن البشر عبر تاريخهم الطويل على سطح الأرض، وبرغم كل العلوم التي توصلوا إليها، كانوا أكثر ما يستخدمون علومهم واكتشافاتهم ومخترعاتهم في الشر والتدمير بدلًا من النهضة والخير والعمران، وكان الدافع إلى الهدف الرئيس وهو النهضة العلمية والمعرفية هو السطوة والسيطرة على مقدرات الشعوب والانفراد بحكم كوكب الأرض التعيس.


لن يدرك ويلات الحروب إلا مَنْ اكتوى بنيرانها، ولن يستطيع المرء أن يشعر بمثل ما يقاسيه مَنْ فقد ذويه في القتال أو في الأسر في معسكرات التعذيب. فقط يظهر القادة العظام وقد تقلدوا الأوسمة والنياشين، ومن خلفهم تصدح المارشات العسكرية الصاخبة، أما من أسفل منهم تجري دماء الضحايا من الشباب الذين فقدتهم شعوبهم للأبد.


"لورا كارلسون"، بطلة رواية "الصائد صفر"، هي فتاة مات والدها "آندي كارلسون" في الحرب العالمية الثانية دون أن تراه، وكان يعمل في البحرية الأمريكية عندما قتله أحد الانتحاريين اليابانيين. ولا تستطيع تلك الفتاة منذ طفولتها أن تتخلص من الخوف الدائم الذي شبَّ معها، لأن روح انتحاري من هؤلاء الذين فجروا طائرتهم المسماة "الصائد صفر" في جسد الأب، يطاردها أينما ذهبت، عبر صوت صاخب مرير يصم أذنيها لا يسمعه أحد غيرها، فلجأت إلى سدادات الأذن حتى تحمي وجودها، فلقد كان ذلك الصوت الصاخب الذي يصاحب هجوم طائرة هذا الانتحاري الذي لازمها، يعيقها عن دراستها وعن حياتها وحتى عن علاقتها بالشخص الوحيد الذي أحبته، فكان دائما ما يفسد عليها كل لحظات المتعة والصفاء النادرة في حياتها التي تحاول أن تقتنصها اقتناصًا برغم واقعها البائس الحزين. لكنها لا تستطيع الهروب من الصوت وصاحبه، وتضيع معه أوقات السعادة القليلة التي تحاول أن تتشبث بها، تلك الأوقات التي فرت منها ولم تجدها في محيط العائلة: الأم الأقرب إلى الجنون التي فقدت زوجها الشاب الذي تحبه رغمًا عنها، والتي بحثت عن بديل له من خلال التسكع في الشوارع، فما جنت سوى الشقاء والتعاسة، والجد والجدة الهرمَيْن البائِسَيْن في رحلتهما السريعة إلى الموت، و"ناتالي" الصديقة التي جعلت "لورا"، ومن حيث لا تدري، تكتشف وجودها الحقيقي الذي غاب عنها في ظل هذه العائلة المقوضة، ومن ثم تبدأ في طرح الأسئلة عليهم، ثم "برونو" الحبيب المنتظر والموسيقي البارع الذي في النهاية يضطر إلى أن يهجرها بعد انتصار الانتحاري عليه إلى امرأة أخرى ساعدته على النجاح في حياته العملية.


تدور رواية "الصائد صفر" حول ما تخلفه الحروب في نفوس البشر من مآسي تسكن في خرائب تهدد سلامة النفس والعقل في كل وقت وحين، ولا تستطيع الأيام بمرورها أن تمحو تلك الآثار السيئة التي تظل تلازم الإنسان حتى يحين أجله أو تكون هي السبب في التعجيل بذلك.


الرواية ممتازة بالفعل رغم صغر حجمها، فهي تقع في تسع وتسعين صفحة من القطع الكبير، إلا أن أحداثها مكثفة وتفاصيلها الدقيقة تجعل القارئ يعيش الأحداث وكأنه طرف أصيل من بين شخوصها، والترجمة بقلم د. أيمن عبد الهادي متقنة، وأشكر له كل الهوامش الرائعة التي ذَيَّلَ بها صفحات الرواية، فشرحت الكثير من المعلومات الهامة بين دفتيها، وصدرت هذه الطبعة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في سلسلة الجوائز، فلقد حصلت الرواية، وهي الأولى في مسيرة حياة مؤلفتها الفرنسية "باسكال روز"، على جائزة "الجونكور" الفرنسية؛ وهي جائزة أنشأها في أواخر القرن التاسع عشر المؤرخ والروائي وكاتب اليوميات الفرنسي "إدمون جونكور"، وأوقف عليها ثروته بأكملها التي كانت تضم ثروة شقيقه وشريكه الثقافي والأدبي " جول جونكور"، الذي رحل قبله بستة وعشرين عامًا، ومُنِحَت الجائزة في أولى دوراتها عام 1903م، أما رواية "الصائد صفر" فقد نشرت عام 1996م، وكانت مفاجأة للنقاد والجمهور على حد سواء، وحققت مبيعات غير مسبوقة تقترب من 350 ألف نسخة مباعة، وفازت بجائزة الرواية الأولى قبل أن تحصد جائزة "الجونكور" الشهيرة.





author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات