يوسف الشريف
القاهرة.. ليست فقط عاصمة مصر. وليست تلك المدينة الواسعة التي تراها الآن. بل هي مدينة عتيقة وعريقة منذ القدم. أسسها جوهر الصقلي وزير الخليفة الفاطمي المعز لدين الله. وتلك القاهرة الأصلية تكاد مساحتها تتعدي مساحة حي واحد من تلك الأحياء التي تراها الآن داخل مدينة القاهرة بشكلها الحالي.
نرشح لك: بخصم 50%.. storytel تقدم عرضا لمحبي الكتب الصوتية خلال رمضان
وهنا سنتحدث باستفاضة عن بعض من تاريخ تلك المدينة العتيقة وبالتحديد عن قلب مدينة القاهرة الأصلية أو القاهرة الفاطمية وهذا المكان الذي يعتبر قلب المدينة عرف فيما بعد بحي الجمالية. وعلى أرض هذا الحي كان يُحكم ما يقرب من نصف العالم الإسلامي في زمن الفاطميين حيث القصر الشرقي الكبير الذي كان يعيش فيه الخليفة الذي يحكم أمصار عدة مثل المغرب وبلاد شمال إفريقيا وصقلية واليمن والشام. وهذا القصر أسسه أيضاً جوهر الصقلي مع الجامع الأزهر أثناء تأسيسه للقاهرة الفاطمية. أما الكتب فتشير إلى أن مكان هذا القصر الآن هو مسجد الحسين ومنطقة خان الخليلي، وقيل في وصف القصر إنه كان قصر متسع وعظيم له كثير من الأبواب وبه مكتبة عظيمة وتربة يدفن بها خلفاء الفاطميين.
وإذا كنا بصدد الحديث عن حي الجمالية والقاهرة الفاطمية فلا بد من أن نصطحب ونستعيد قراءة واحد من أبناء وعظماء هذا الحي ودراويش تلك المدينة العريقة، وهو الكاتب الكبير جمال الغيطاني الذي عاش لفترة كبيرة في درب الطبلاوي. وكل من سيقرأ أعمال هذا الأديب باستفاضة وتمهل سيعرف مدي الأثر الذي تركه هذا الحي في وجدان الأديب الكبير حتى فارق الحياة.
ومن خلال تأملي لمسيرة الغيطاني الأدبية وهي مسيرة عظيمة يجب تأملها والاستفادة منها بأكبر قدر، لاحظت أن الأستاذ دائما ما كان يريد أن يبحث ويحلل طبيعة تلك الأرض التي ولد عليها ومنها يعرف كيف تشكل وجدان هؤلاء الأشخاص المحيطون به والذي يتعامل معهم. وكان يريد أن يعرف من الذي عاش ووطئ هذه الأرض التي يخطو عليها في حاضره، ويعرف أخبار من سبقوه. وأن يتحاشى أخطاء من سبقوه في حاضره ومستقبله. وأن يستفاد أكبر استفادة من تلك التجارب التي دونت في كتب التاريخ لا ليرويها كمجرد حكايات للتسلية ولكن لتكون عبرة وحكمة نافعة لنا في الحاضر تساعدنا على الخروج من الأزمات الراهنة أو الأزمات التي يمكن أن تواجهنا مستقبلا.
ولكن قبل أن نتحدث عن الغيطاني وتعلقه بحي الجمالية، لا بد أن تعرف وتعترف أننا جميعا مدينون لهذا الحي العتيق العريق حي الجمالية. ففي حاراته ودروبه وأزقته خرج الكثير من المبدعين والفنانين ورؤساء الجمهورية الذين أثروا في حياتنا وفي ثقافتنا وفي تاريخنا وفي وجداننا. ومن هؤلاء من ولد وعاش في الحي ومنهم من أتى إليه وعاش داخل المكان لسنوات. ومنهم من جاء للدراسة في أحد مدارسه.
ومن الذين عاشوا على أرض هذا الحي المؤرخان تقي الدين المقريزي وعبد الرحمن الجبرتي. ومن الأدباء الكبار نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وعميد الأدب العربي طه حسين. وعباس محمود العقاد. ومن الممثلين عبد الوارث عسر ومحمود المليجي وعبد الفتاح القصري. ولا يمكن أن ننسي في حديثنا عن مشاهير هذا الحي أبو الاقتصاد المصري طلعت حرب. أما عن الزعماء فقد أخرج الحي وأثر في بعض الزعماء ومنهم. جمال عبد الناصر وسعد زغلول ومصطفي كامل. وأخيرا الرئيس عبد الفتاح السيسي.
فنحن هنا أمام مكان يعتبر بمثابة منبع لكل العظماء فلا بد أن نتتبع معاً سيرة المكان لنعرف كيف أثر هذا الحي في هؤلاء؟ وكيف أضاف لهم الكثير؟!
عند زيارتك لهذا الحي ستدخل من باب الفتوح وهو أحد أبواب القاهرة الفاطمية. وستشاهد تلك الأسوار وهي أسوار مدينة القاهرة الفاطمية وقد شيد تلك الأسوار أمير الجيوش بدر الدين الجمالي وأول ما تجده بعد ولوجك من الباب جامع الحاكم بأمر الله. وهو من أول المساجد التي تم بناؤها في مصر الإسلامية.
وفي كتاب "ملامح القاهرة في ألف سنة" يحكي لنا الغيطاني حكاية الحاكم بأمر الله وهي حكاية تتضارب فيها أقاويل الكتاب والمؤرخين فمنهم من يري أن الحاكم كان مجنونا ويحكون عنه الكثير من الحكايات التي قد تظن أنها خيالية ومنهم من يقول إنه كان تقي وورع وأن كل قراراته وأفعاله كانت طبيعية ومنطقية ولها مبررات. وفي الكتاب يقترب الغيطاني من هذه الشخصية المثيرة وهي شخصية الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. ونعرف معه كيف تم بناء مسجد الحاكم وكيف أهمل في بعض العصور. ونعرف من خلال الكتاب أن تصميم مئذنة المسجد مستوحى من شكل منارة الإسكندرية القديمة تلك التي اندثرت في زمن ما.
ثم يحكي لنا الأستاذ بعضا من خبايا تلك المدينة العريقة. ولا سيما حكاية تلك العمائر المختلفة من المساجد والأسبلة والبيوت وأيضاً المقاهي وسيرة من عاشوا في زمن ما، ومن مروا بهذه الأماكن التي ستشاهدها وستقع عليها عينك عند زيارتك لهذا الحي. ويقول الغيطاني في كتابه:
لم يكن التاريخ الفرعوني معروفاً لأهالي العصر - القرن السادس عشر الميلادي - ولكن كانت الآثار القائمة في الوادي، تُحير الأهالي ورسومها، من هنا صاغ الشعب تاريخاً أسطورياً لمصر، يمتزج فيه الخيال باللاوعي الجماعي للشعب المصري والذى يختزن أحداث التاريخ القديم ولكن في صورة أسطورية لا علاقة لها بالواقع والتاريخ
وهنا يريد الاستاذ أن يقول لنا أن الإنسان في مصر بطبيعته محبا لمعرفة التاريخ ومعرفة أخبار من سبقوه وأن المصري بطبيعته يميل ويستمد الكثير من العادات والصفات من هؤلاء الذين سبقوه وعاشوا على نفس هذه الأرض. حتى ولو لم يقرأ هذا الإنسان سطرا واحدا في كتاب التاريخ. فالمصري بفطرته يكاد يشم ويبصر من مضوا فوق هذه الأرض في حاضره.
وفي كتابه الآخر "استعادة المسافر خانة" يروي لنا حكاية أثر هام كان موجودا في يوم ما داخل هذا الحي وبالتحديد في درب الطبلاوي. وهذا الأثر ليس كمثل باقي الآثار ولكنه كان من أجمل الآثار الموجودة في مصر الإسلامية وفي حي الجمالية نظرا لأنه يحتوي على العديد من التحف الفنية عالية القيمة متقنة الصنع ويقول الغيطاني في كتابه أن هذا المكان كان يحتوي على مشربية تعد من أجمل المشربيات التي يمكن أن تقع عليها عين إنسان. ويسرد لنا سطور جميلة تتحدث عن دور وفلسفة المشربية. وكيف تغيرت أخلاق المصريون عندما استبدلوا المشربية بالشبابيك؟ فالمشربية ساترة لما خلفها وبالتحديد في الشوارع المصرية والقاهرية تتلاصق البيوت في حميمية بجوار بعضها. لذا كان دور المشربية مهم فهي تمنع الجار من النظر إلي بيت جاره وكشف حرمت خصوصيته.
وكثير من الناس لا يعرفون أن الخديوي إسماعيل، صرخ أول صرخاته بعد ولادته داخل هذا المكان. وقد كتب الغيطاني هذا الكتاب بعد الحريق الذي ضرب هذا المكان في مقتل. وبدل حاله من مكان غاية في الجمال إلي مكان غاية في القبح. ومن مكان عامر لمكان خرب مهجور. وفي الكتاب يتكلم الأستاذ بصوت تكاد تفر منه الدموع حزنا على ما جري بالمكان قائلاً:
كانت "المسافر خانة "ركنا ركينا في درب الطبلاوي، وباختفاء القصر. فقد الدرب جزءا رئيسيا من ذاكرته، وفقدت القاهرة القديمة مركزا للإشعاع وبث الخصوصية، فهل نحن في مواجهة زمن يشهد مجموعة من الأحداث تستهدف تفريغ القاهرة من مضمونها الروحي، وإلغاء ذاكرتها خدمة وتنفيذا لدواعي العولمة، يتم هذا مرة باسم التطوير، ومرة بالحريق؟
في هذه الفقرة تكاد أنت أن تري مدى الحزن الذي ملأ قلب الأستاذ ويفيض به قلمه مصورا تلك الكلمات. ولاحظ إنه استخدم تعبير (تفريغ القاهرة من مضمونها الروحي) فهو هنا ينظر إلي هذا الحي العتيق وقلب القاهرة الفاطمية كقلب روحي للمدينة الكبيرة ولمصر كلها لا يمكن التخلي عنه والتفريط فيه.. فهذا الحي يعتبر بمثابة ذاكرة شاهدة علي تاريخ مصر المليء بالحكايات والأفراح والانكسارات، كما إنه مركز روحي هام للغاية لأن به الجامع الأزهر ومسجد سيدنا الحسين.. والعديد من المساجد التي تلقي بالخشوع في قلب من يلج أبوابها.
وفي كتابه تجليات مصرية يواصل الأديب العالمي غوصه في ثنايا المدينة وتاريخها ويروي لنا بعض الأماكن الأثرية التي يضمها هذا الحي. ولعل تلك الكلمات التي قالها داخل ثنايا الكتاب تلخص مدي حب وعشق وهيام هذا الفنان العظيم بهذا الحي الذي عاش فيه وهذه المدينة.
للشوارع ذاكرة خاصة بها، كذلك الحواري والأزقة، الحكايات مختزنة في صدور البشر وأفئدتهم، تتداخل فيها العناصر، الواقعية والأسطورية، الحقيقي والمتخيل، ذاكرة المدينة القديمة أكثر ثراء وأغزر مادة لأن البشر أكثر تقاربا ومعايشة لبعضهم البعض. هنا في الطريق تتداخل الحيوات وتتقارب المصائر حتى عند وقوع المشاجرات
يحلل أستاذنا طبيعة البشر وارتباطها بالأرض يؤكد كلامنا الذ تحدثنا فيه. ويواصل الغيطاني التعبير عن حبه للمدينة والبشر في باقي أعماله فيقول في دفاتره البديعة "خلسات الكري":
أخطو فوق أرض أجهل شخوص من عبروها قبلي، لكنني أرصد ما تبقى لعل وعسى، غير أنني بمجرد اجتياز المدخل أواجه صمت الأعمدة الضاجّ بالحنين، أنتبه إلى بدء سفري عبر درجات الضوء وأطواره المتقلبة.. إنها ذاكرة الضوء ومراحله منذ وجود الومضة الأولى
هنا نري كيف كان يتعامل الأديب الكبير مع المدينة فهو يتأمل كل شيء ليس فقط وجوه الأشخاص والمباني وحكاياتهم بل حتى درجات الضوء في الدهاليز والمنعطفات. فبالنسبة له كل شيء تم وضعه بحساب ولهدف معين لا يحيد عنه حتي وإن كان هذا الهدف غير واضح للناظر ولكن يمكن أن يكون له دلالات أخري فلسفية وفنية عميقة لأبعد حد. تثير تفكير وتأمل كل محب عاشق للتفكر والتدبر الذي هو فريضة إنسانية ودينية.
ونلاحظ حديث الغيطاني المليء بالشجون داخل الرواية قائلا:
عند توقفي هنا أو هناك، أسعى دائماً إلى المعمار. إنه آخر ما يبقى من الإنسان، يتحلل المأكل، والملبس، وتندثر الملامح، تمضي إلى العدم. ويبقى النحت، والأسس، والعلامات الدالة، الآثار الخفية، والسمات الشاردة من هنا إلى هنا
من خلال تلك العبارات نستطيع أن نري مدى تأمل الأديب الكبير فهو يحدثنا هنا لا عن قيمة البنيان والعمائر فقط بل يحدثنا عن الأثر الذي يتركه الفن في وجدان وروح الإنسان والعمارة ما هي إلا فن من الفنون.. مثل الغناء والموسيقي والسينما والرسم والكتابة وما إلي ذلك.. من الفنون التي تثري الروح ويمكن أن تخلد أسماء أصحابها.
الحديث عن أديبنا الفريد جمال الغيطاني يحتاج إلى دراسات وتأملات طويلة. والحديث عن القاهرة لم ولن ينتهي ففي كل شارع وحارة وزقاق وبيت داخل تلك المدينة العتيقة الكثير من الحكايات التي تحتاج لآلاف من الكتب. ولكن كل ما عليك أثناء مرورك على أرض هذا الحي أن تتأمل كل شيء تتأمل الأحجار المتمثلة في العمائر وتتأمل وجوه البشر المليئة بالحواديت.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب