القائمة الرئيسية

الصفحات

في حضرة العنقاء والخل الوفي.. بين معاناة المهمشين ومفهوم الانتماء


عبير سليمان

لم يخطيء الكاتب حين وصف روايته بالصعبة، وأنها تتطلب قارئا ذكيا ذا وعي وعقل كبير يدرك المعاني الكامنة في الرواية. 



لا أنكر أنني استمتعت بهذا الكم من المشاعر الإنسانية والصراعات النفسية التي يعانيها فئة الـ "بدون".. خاصة أنه بدأها بالحيرة والشجن وأنهاها بنفس الحيرة والشجن، مضيفا لها القهر من الواقع المتناقض الذي سيظل يحاصر البطل "المنسي إلى ما لا نهاية".



يعبر الراوي "منسي" عن حيرته بقوله "شاغلني سؤال حاد ما زال يجول داخل رأسي.. أيّهما مرهون بالآخر وثيقة تملك بيت أم وثيقة انتماء لوطن؟". ويحاول الإجابة على هذا السؤال في سياق سردي يرسم له طريقا واضحا رغم صعوبته.



رغم أن المحور الذي تُبنى عليه أحداث الرواية هو البدون، من هم؟ وكيف يحيون بلا هوية ولا وثيقة سفر؟ هم يحملون هوية الوطن الذين يعيشون فيه وينتمون إليه، لكن للأسف الوطن يدير لهم وجهه وينكرهم وكأنهم أبناء سفاح، لا يحق لهم حمل اسم الوالد الذي يحملون صفاته، وسلوكه، ولهجته وخصائصه الوراثية، يأكلون نفس طعامه، وإن وقع عليه اعتداء يهبون للدفاع عنه!



لا ننكر أبدا أن الموضوع هنا يلمس معاناتنا، وإن اختلفت عن البطل "منسي"، فالمهمشين في العالم الثالث كلهم بدون، وأخطر ما يفقده الإنسان في بلادنا العربية هو كرامته وقانونا يحمي حقه إن وقع عليه اعتداء. يفقد الإنسان منا أيضا حقه في الاستقرار والحياة الآمنة.. لكن أبشع أنواع الشعور بأنك بدون، أن تكون بلا هوية محددة.. تشعر بالضبط أنك إنسان لك وجه لكن دون ملامح، كمن طمست معالمه عقب حادث أليم أو التعرض للحرق.



لذا فقد أبكتني الرواية في مواضع مختلفة، الكاتب لديه إحساس مرهف يفوق الوصف، إن الإنسان الذي يشعر بأن مصيره معلق في الهواء، لا يحمل هوية لا يملك حسم قراره العاطفي، دائما يشعر بأن هناك فراغا داخله يسبب له عاصفة داخلية تشوش على تفكيره، وربما تدخله في أزمات لا ذنب له فيها.



طبعا السرد جذاب ومشوق جدا، فرغم حجم الرواية الكبير نسبيا، إلا أنها جذبتني، لولا انقطاعي في المنتصف عن قراءتها كنت انتهيت منها قبل هذا اليوم، لكن أيضا لثرائها، ومرورها بعدة أحداث تاريخية كان لها أثرا في تحولات خطيرة وهامة في المنطقة ، مثل غزو الكويت وتحريرها، ومسار حياة البطل خلال هذين الحدثين الجسيمين وأثرهما على حياته، فهي تحتاج لقراءة متأنية، لكي تُفهم ويتم استيعاب كل الانفعالات والمآسي الشخصية المصاحبة للأحداث الجارية، والتي لا ينكر أحد أبدا أثرها الكبير على بلد مثل الكويت وأهلها، وعلى الأسر التي تعيش هناك بحكم العمل وأكل العيش، فكم من أسر تفككت إثر هذه الوقائع، وكم تغيرت معالم المنطقة كلها كمثل زلزال وتوابعه.. فالكاتب هنا يقول: "لم تعد الكويت مثلما كانت قبل الغزو، ولا أهلها أيضا ، كل شيء تغير".


البطل هنا يخاطب ابنته عبر رسالة يكتبها إليها، يمتد زمن أحداثها منذ السبعينيات، ونشأته في بيت فقير مع أم فقيرة عاملة في مدرسة وأب متوفى منذ كان صغيرا حتى أنه لا يتذكر شيئا عنه، مرورا بلقائه بزوجته أم البنت في 1985، في دمشق خلال مهرجان المسرح، وصولا إلى عام 1990 والحدث الرهيب وهو غزو العراق للكويت ثم تحريرها، إلى أن نصل لزمن كتابة الرسالة 2010 هو يكتبها على أمل أن تعرف الابنة زينب سيرة حياة أبيها، ولا يعلم إن كانت ستقرأها يوما ما أم لا؟ أو إن كان سيتمكن من رؤيتها أم لا؟


العنوان نفسه يحمل في طياته معانٍ عميقة، ترى إلى ماذا أراد أن يرمز بعنوان "في حضرة العنقاء والخل الوفي".. هل كان يسخر من حاله، وحلمه الأبدي الذي يشبه المستحيلات الأربعة؟ أم هل يسخر من أنظمة عقيمة الحصول على الهوية فيها أصعب من الحصول على صديق، وفي والنجاة من الهلاك والموت، كما حدث مع البطل؟


طبعا لا يمكن إغفال سخط الكاتب الكويتي على المجتمع الذي تحكمه عادات وتقاليد قبلية، تظلم المرأة وتمنح صلاحيات هائلة للأخ الكبير، أن يبطش ويصادر على حق أخواته البنات في الميراث، بإجبارهن على التنازل عن حصتهما مقابل إكمال تعليمهما، ناهيك عن الجحود والصلف الذي تتسم بهما شخصيته الكريهة، فهو لا يتوانى عن إدعاء التدين، وفي نفس الوقت لا يخجل من التزوير أو ارتكاب أي جرم مقابل تحقيق مطامعه.. حتى ولو بالزج بنسيبه في السجن بتهمة باطلة، بعد أن رفض الأخير أن يكره على تطليق زوجته الحامل، فيبلغ عنه سلطة الاحتلال التي تضعه بين اختيارين أقسى من بعضهما، لتتابع الأحداث المؤلمة كما رأينا.. كل ذلك من أجل فرض سيطرته على الثروة، ولو تطلب ذلك أن يقهر ليس أخواته فقط بل يبلغ به الانحطاط والجشع لدرجة قهر الأم والعم وإخضاعه لأن يكمل حياته في دار رعاية اجتماعية "مسنين"!


انبهرت بوصفه لمشاعر الزوجة عهود أثناء زواجها الأول، وكيف انكرت عدم شعورها بالسعادة، حتى لا تظهر بمظهر من اتخذت قرارا خاطئا، تفاصيل العلاقة مع زوجها وصفها بأسلوب رائع، ثم كيف تعاملت مع زواجه بأخرى من أجل الإنجاب.. ثم كيف أنهت الزواج عند مرض أبيها، هو يصف حال كثيرات من الفتيات في هذه المجتمعات التي تعيش صراعا بين الأفكار التقليدية وبين الأفكار الحديثة.. وأن من المستحيل التوفيق بين التحضر والبداوة توفيقا كاملا ويظل دائما هناك صراع داخل الفتاة وعائلتها، حول كيفية اختيار الزوج المناسب، لكن دون أن تتاح لها معرفته بشكل كاف في فترة الخطوبة، لمراعاة التقاليد وخشية كلام الناس! 



فنجد أن معظم الزيجات تنتهي بدراما وفشل وعدم توافق طرفي العلاقة، من ثم فالانفصال هو النتيجة المحتومة لعلاقة لم تقم في الأساس على اختيار ناضج وواعي دون ترو وتأن من الطرفين، ليتمكنا من فهم بعضهما البعض.

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات