القائمة الرئيسية

الصفحات

موعد على العشاء.. محمد خان وموعد مع التحرر من الألم

 


دينا الحمامي


تحل ذكرى ميلاد المخرج العبقري محمد خان في السادس والعشرين من أكتوبر الجاري، وبصدد الحديث عن أعمال خان، أعتبر نفسي مجروحة الشهادة في حق هذا الفنان الفذ الذي عشق السينما ونهل من فنونها، فلم تبخل عليه بأن أوحت له بروائع ما زالت ملء السمع والبصر، ولعل أبرزها وأقربها لقلبي الأيقونة السينمائية "موعد على العشاء".


نرشح لك: "فتاة المصنع".. محمد خان وسينما الصمت والانتصار للمرأة


شكل خان وعاطف الطيب ثنائي الواقعية بجدارة حيث نجحا في التحرر من قيود البلاتوهات وأماكن التصوير المسمطة، لذلك فمن الصعب أن تجد فيلمًا لخان ليس به أكثر من لقطة بالشارع مع الناس العاديين بعيدًا عن المجاميع، ولهذا السبب فضلًا عن انغماسه في قضايا الناس، فقد قرر أن يهدي فيلم "دعوة على العشاء" في سابقة أن يقوم مخرج بإهداء فيلم من بدايته لنهايته لشخص واقعي من شحم ولحم ودم وكان هذا الشخص هو نوال.. ولكن من هي نوال؟


تأتي بداية الفيلم حينما يقرأ خان خبر بإحدى المجلات اللبنانية عن فتاة تدعى "نوال" ترفض أمها زواجها من شاب يدعى "شكري" لتزوجها من ثري اسمه "عزت" فيقررا الانتحار سويًا لتنتشر القصة ويذيع صيتها فيقرر خان تحويلها إلى سيناريو فيلم بمعاونة السيناريست المخضرم "بشير الديك" بعد أن قاما بالتغيير في تفاصيلها. 





- خان والمرأة وحق تقرير المصير 


لا غرابة أن نجد نوال التي قررت الموت عوضًا عن أن تستمر بحياة لا تريدها هي بطلة الفيلم وملهمة أحداثه، فخان مخرج معني بالشخصية والإنسان بوجه عام وبالمرأة بوجه خاص؛ لذلك تجد بطلاته جميعًا صاحبات قرار يربط بينهن نزوعهن للحرية، فنجد على سبيل المثال لا الحصر خوخة " ليلى علوي" في خرج ولم يعد رغم تواضع تعليمها، صاحبة قرار في حياتها وفي قرار زواجها أيضًا، ونجد دلال "فردوس عبد الحميد" في الحريف ترفض العودة لفارس "عادل إمام" رغم احتياجها الشديد له إلا بشروطها، ونجد نوال -ورغم قهرها - قد قررت وضع حد لسلسال من الآلام لا حصر له، بعد سلبها كل ما أحبته.


مساحة إعلانية

 - صنعة الحوار 


من يتتبع سينما خان يجدها سينما تنتصر للشخصية وتفاصيلها أكثر من الإغراق في سرد أو صراعات لن تفيد العمل، ولعل أهم ما يميز هذا الاتجاه وخاصة عند خان هو منطقية الأحداث والصعود المتعقل الرزين للشخصيات سواء عن طريق الحوار المحكم أو حتى الرموز الصامتة.


"شكري عايزة أتكلم معاك في موضوع مهم وأنت مش سائل"

"بعدين بعدين" 


كشف هذا الحوار المحكم لبشير الديك عن العالمين المتناقضين للزوج النرجسي المتحكم حد القهر والتهميش للآخر "عزت أبو الروس" والزوجة "نوال أحمد كامل"، فمنذ المشاهد الأولى نجد الفجوة الهائلة بين العالمين فنوال المسالمة حد البراءة تخشى الحديث مع زوجها إلا بالنذر اليسير وحتى مع هذا لا تستجاب مطالبها من قبل زوجها الذي لا يعبأ إلا بعمله وبجمع الأموال كما أظهر في جمل مقتضبه سبقت هذا الحوار أثناء حديثه عن أصدقائه:


"بيعجبوني الناس دول جدًا، ماعندهمش وقت للعواطف، حياتهم للشغل فقط، عندهم ولد وبنت من ساعة ما اتولدوا وهما في مدرسة داخلية، ماشفتهمش ولا مرة"




فقط في بضع جمل مباشرة ولكنها مركزة كاشفة لمأساة بطلة تعيش مع زوج لا يفهمها وإذا تحدثت لا يسمعها وكأن بينهما حجابًا وإذا أصرت على الجهر بما تجيش به سرائرها تتعرض للتعنيف اللفظي والجسدي حتى بعد طلاقها حينما تصل منزلها بصحبة"شكري سلام" أحمد زكي تجد عزت قد اقتحم المنزل في إشارة بأنه يستطيع الوصول لها أينما كانت، فتصرخ به " أنا بكرهك بكرهك بكرهك " ليصفعها على وجهها قائلا:

"اخرسي، إن ما خليتك توطي على رجلي تبوسيها"


ولأن الحوار حرفة، فكما برع في التصريح الذكي بعوالم نوال وعزت، نجح الحوار أيضًا في كشف المبرر الأساسي لكره نوال لعزت، فنلاحظ نوعًا ثانيًا من الحوار يكتفي بالتلميح دونما تصريح وظهر هذا في أكثر من مشهد فنجد نوال في لحظة حميمية من اللحظات الأليفة القليلة مع أمها تلمح لها:


"ده كمان عمل فيا حاجة فظيعة، عمري ما قدرت أنساها، وعمري ما قدرت أقولهالك"


وفي حوار ثاني لها مع عزت بعد طلاقهما وزواجها من شكري:


"إللي ماقدرش أنكره وأنساه، إنك اخذتني غصب عني "

"كان غرضي شريف، كنت عايز اتجوزك وأنت إللي رفضتي"

"مكنش في طريقة تانية غير إنك تاخدني بالغصب بالقوة مع إنك كنت عارف إني رافضة الجواز؟"

س أنا كنت عايزك، ومكنتش أقدر أسيبك لحد تاني ياخدك مني".

"وده إللي خلاني كرهتك "


هكذا بسلاسة بدون تصريحات وبتلميحات ناعمة نجح الثنائي خان وبشير الديك في الكشف لنا عن تعرض نوال للاغتصاب من قبل حسين فهمي قبل الزواج مما أسفر عن كل هذه الكراهية حد الاشمئزاز. 





نجح الحوار أيضًا في الكشف عن تطور العلاقات بين الشخصيات وتحولها من النقيض للنقيض، فنجد الأم المنتفعة التي من مصلحتها استمرار زيجة ابنتها ولو على حساب سعادتها تطالبها بالإنجاب لترسخ أقدامها في الزيجة:


"أنت لازم تخلفيلك عيل ولا اتنين يا نوال"

لترد عليها ابنتها في مشهد آخر "انتي بعتيني يا ماما وبتقبضي الثمن"

لنجد هذا الحوار وقد تبدل على منتصف أحداث الفيلم عندما تقرر والدتها الزواج حينما تقول لها ابنتها:

"اسمعي يا ست انتي، إحنا معندناش عرايس تقول رأيها، أنتي عليكي تفرحي وبس"


هكذا تدور أحداث الفيلم على نسق دائري فكل مشاهد العمل تساعد بعضها البعض وتساهم في اكتمال الصورة، وجميعها تؤدي حتميًا لمشهد النهاية؛ يبدأ الفيلم بمشهد زفاف نوال وعزت في أجواء مربكة تشبه الحصار سواء في وضعية التصوير أو في وجود الأم في بداية كادر التصوير أو حتى في صورة الزواج المعكوسة في كاميرا المصور لأقل من جزء من ثانية ولكنها إشارة نجحت في اجتياز عتبات المصور والعمل للتلميح بانقلاب حياة البطلة بداية من هذه النقطة مركز الدائرة.


مشهد آخر يكرس للنهاية الحتمية هو مشهد العشاء بالمطعم والذي يشبه حلقة مصارعة، فنجد على الحائط خلف الزوج لوحة مصارعة إسبانية والزوج نفسه يفصله بينه وبين الزوج فجوة بالمساحة فهي في أول الكادر تماما وهو بنهايته، كأنه يفصله عنها أميال وهي مرتبكة كعادتها متشحة بالسواد تمسك بمنديل أحمر يوحي بأجواء الصراع، حتى الموسيقى الإسبانية الصاخبة قامت بخدمة هذا البناء الكابوسي مع قتامة الإضاءة لتغادر نوال المشهد أو حلبة المصارعة لتنتهي المبارزة الصامتة بصمت الموسيقى أيضًا تمامًا كما في المبارزات والثنائيات الحربية.


ولأن زكي مثله مثل خان، غارق في الواقعية كان من المألوف أن تجد العمل كمبارزة في إظهارها، ففي حواراته التليفزيونية التي أعقبت الفيلم بسنوات، أكد أنه أصر أن يدخل هو بنفسه دون الاستعانة بدوبلير في ثلاجة الموتى لكي تتمكن سعاد من تقمص الصدمة عندما تشاهده، كما أكد أنه حاول تعويض رائحة الفورمالين بكولونيا قوية الرائحة ولكن تفاعلهما أفرز رائحة ثالثة أشد سوءا كما أوضح أن معظم طاقم العمل من إضاءة ومصورين رفض حضور هذا المشهد وأن سعاد اندمجت حد الانهيار لدرجة أنها تعرضت للإغماء فصفق كل من كان خلف الكاميرات.


كعادة خان وكما نجح في الاستخدام الأمثل للحوار نجح أيضًا في توظيف الأماكن لدرجة تشعرك وكأنها بطل من أبطال العمل، فلا يمكنك أن تغفل مثلا مشهد عزاء الأم والذي ظهر به عزت بملامحه شخصيته المائلة للنزاع مبتلعًا الكادر كأنه هو سيد البيت بينما نوال مهمشة وسط صديقاتها كما ظهر أحمد زكي منزوي في جزء منسي من المكان وبواجهتهم الساعة وإنذارها المتحفز الذي يدوي طوال الفيلم ولم يتوقف سوى قبل مقتل شكري بقليل في إشارة لانتهاء حالة التأهب والانتظار. 


"أول ما شوفت الصورة دي، حسيت إن الطفلة إللي جواها دي أنا، ماشية في طريق، زي ما يكون في حلم، بدايته فين ماعرفش، وحيوصلني لفين برضة معرفش، لما التاجر خدها مني، كأنه خد حياتي كلها".


هكذا صرحت نوال لشكري بنهايات الفيلم بعدما نجحت في الحصول على لوحة كانت قد شاهدتها ببداية العمل في مزاد مع صديقاتها تنضح من أرجائه أجواء الضيق والقلق بعدها ظهر شخص غريب الأطوار - نعرف أنه تاجر انتيكات بنهاية الفيلم- وخطف الحماس الذي كان بالمكان ليحول المزاد إلى حلبة مصارعة ويسلب منها اللوحة التي كانت تمثل لها البراءة التي خطفها منها عزت سواء بسوء معاشرته وذكرياتها الأليمة معه أو عن طريق أحوال البيت الخانقة كالزنزانة التي تضيق عليها يوما بعد يوم ، وعلى النقيض نرى الأجواء الحميمية في أجواء بيت الأم الدافئة بعد الطلاق وحتى في السوق وهي بصحبة شكري بمجرد رؤيتك لتفاصيل المشهد من شكل الطيور المسالمة والابتسامات الهادئة لكليهما والموسيقى الحالمة وتسريحة الشعر المهدول، تتيقن من أن كل هذه التفاصيل تم العمل عليها بعناية ليظهر المشهد رومانسيا وهو في سوق.


نجد أيضًا طوال أحداث الفيلم البطلة مهمشة في المكان وكأنه سيبتلعها سواء في البناية الشاهقة التي تقطن بها أو حتى في مشاهد البحر أو تبدو ضئيلة وحيدة منسية في المكان، ولعل مشهدها عندما ذهبت لتطلب الطلاق من عزت قد برع في تجسيد مدى البؤس والتهميش الذان يحيطان بها، فنجدها في مشهد كابوسي بداخل المصعد تصارع من أجل الحفاظ على حياتها ونجحت كل العناصر من إضاءة بقيادة ماهر عبد النور وموسيقى كمال بكير البديعة وتصوير محسن نصر تحت قيادة المايسترو محمد خان في نقل حالة الصراع من أجل البقاء التي تعاني منها البطلة،في مشهد أقرب للتابلوه الفني الموسيقي.




- الموت كنهاية للألم وعبثية الحياة 


يبدو لك الفيلم من البداية وحتى النهاية وكما لو كان مكرسًا لهذا المشهد والذي قررت به نوال وقف حد لنزيف الألم بحياتها والذي بدء بسلسال حرمان متراص كحبات عقد سواء بحرمانها من والدها بطفولتها، أو من أخ لم يظهر قط ولن يأتي أبدًا، وحتى أمها بعد تقربهما من بعضهما البعض، إلى شكري حب عمرها والذي دبر له حادث قتل على يد عزت، ولكن وبرغم كل هذا الألم يأبى الموت أن يأتي بسهولة، فنجد نوال ترى نفسها في خادمة معلقة بين السماء والأرض بانتظار أن تقع إلى حد أنها جاء لها المشهد بحذافيره على هيئة كابوس قبل مصرع شكري بقليل.


نرى نوال وهي على وشك إعداد وليمة الموت تذهب للسوق مرة أخرى ولكن في أجواء مغايرة تمامًا عن نظيرتها مع شكري فالموسيقى التصويرية متحفزة، والسوق في فوضى عارمة وشعرها معقود مقيد والديوك الرومية في حالة صراع كما لو كانت في حرب حتى أثناء إعداد نجد أجواء الحداد حاضرة وبقوة سواء في ملابس نوال أو في اختفاء نص جسدها بالكادر. 


"غلبتيني يا نوال "

"ده أنت إللي غلبتني يا عزت، في الأول غلبتني، وفي الآخر ضيعتني خالص"


كانت هذه آخر الجمل التي دارت بين نوال وعزت بعدما قررت الموت معه، بأن التهمت من المسقعة المسمومة أكبر قدر ممكن وكأنها تستجلب الخلاص لتموت نوال وبشجاعة وفي تحدي للألم وتموت بعدها بعشرين عامًا بالضبط سعاد حسني حزينة كما عاشت نوال وحيدة كما عانت نوال معلقة بين السما والأرض كما خشيت نوال.




author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات

تعليقان (2)
إرسال تعليق

إرسال تعليق

شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب