القائمة الرئيسية

الصفحات

طارق إمام يكتب: "مثل الأفلام الساذجة" لـ نورا ناجي.. كلُّ مهدٍ مقبرة



      سواءٌ أكان موت الذات الموشِك، أو موت الآخرين المتحقق، فإن نصوص الكتاب القصصي "مثل الأفلام الساذجة" لنورا ناجي، (دار الشروق، القاهرة)، تتحرك في المسافةِ العمياء، الخاطفةِ حد أنها لا تكاد تُلحَظ، بين المهد والمقبرة. كأن الطفولةَ أقربُ ما تكون للاحتضار، وهي المنوط بها أن تكون ذراعين نبتا تواً من أجل معانقة الدنيا. بالقوة نفسها، فإن الشيخوخةَ تنهضُ كفضاءٍ يتجاوز التقادُم الإجرائي في العالم، إذ لكل شخصٍ في هذا الكتاب تجاعيده.


     الكتاب، المتوَّج قبل أيام بجائزة الدولة التشجيعية في مصر، كأفضل مجموعةٍ قصصية، عن جدارة، يقدم اثنين وعشرين نصاً، تحتل الأنثى واجهاتِها، طفلةً أو ناضجةً أو شائخة، زوجة أو عاشقة، جسداً أو شبح، في التفاتاتٍ ثاقبة، وشديدة الشاعرية، لأسئلة الوجود عبر أشد الذواتِ هامشيةً واستعصاءً على الملاحظة، ذلك أن نورا ناجي تلتقط شخصياتها، في القصص كما في الروايات، من أولئك الأكثر عادية، العابرين، من يستحيل أن تقابلهم مرتين، في المدن الصغيرة أو الكبرى، في الأوطان والمنافي، والذين يكادون أن يكونوا غير مرئيين، فضلاً عن أن حيواتهم تبدو أكثر مألوفية من أن تجعل منهم "أبطالاً". غير أن نورا تنجح دائماً في تحويل أشد الحيوات ركوداً ورتابة إلى سيرٍ لا تُنسى، ملتفتةً لأحد أكثر أدوار الفن أصالة: الانتباه، ونزع المألوفية عن المُعاد والمبذول بحيث يبدو، في كل مرة، جديداً وغريباً معاً.


نرشح لك: نهلة كرم تكتب: نورا ناجي التي رفضت الجري في المكان


      هذا ما يحققه، في ظني، هذا الكتاب، عبر سؤالٍ مركزي، هو سؤال الوداع، وداع الحب والرغبة، وداع المكان والحقبة، وفي المجمل، وداع الوجود ذاته، الذي يبدو على الدوام مثل زجاجٍ شفافٍ لفاترينة، يشف عما خلفه من احتمالاتٍ ينطوي عليها الموت، بوصفه حياةً مرجأة، لا عدم، وحيث الذات الإنسانية موضوعٌ للعرض والفرجة، بأكثر مما هي موضوعٌ لممارسة الوجود الفعلي، الذي تقمعه السلطاتُ كافة، من سلطة الذكورة إلى سُلطة الطبقة، ومن سلطة التاريخ إلى سلطة الحاضر.



ثقبٌ ضيق.. فجوةٌ واسعة


      ليس غريباً أن تُقارب القصةُ الأولى "ثقب ضيق باتساع العالم"، سيرةَ طفلةٍ يهدد ثقبٌ في القلب حياتها، تحيا على شرف النهاية. تتبع، بالضمير الثالث، ذاتاً من طفولتها المبكرة إلى سنوات النضج. تفعل ذلك عبر ساردةٍ مصاحبة (رؤية مع)، لن نشعر معها، لو حوّلت السرد إلى الضمير الأول، بفارقٍ ملحوظ بين السارد الموضوعي والسارد الذاتي. إنها "وجهة النظر" وهي تختار مكانها النموذجي، (في أغلب القصص المسرودة بالضمير الثالث بالمناسبة) على مسافةٍ من الراوي العليم "كلي المعرفة"، (الرؤية من الخلف)، ونظيره النسبي محدود المعرفة (الرؤية من الأمام).


      قلتُ "سيرة" عامداً، لأن القصة التي لا تتجاوز الصفحات الست، تدمج، بقفزات ذكية، وبقطعٍ زمني بات، بين ما كان وما هو قائم، لتذيب زمنين متباعدين، بخيطٍ رقيق، في الزمن السردي. ذاتٌ تستجير من الموت برمضاء التصالحٍ مع غرفة مظلمة، هي غرفة "الدادة"، غرفة لا تختلف كثيراً عن المقبرة التي تنتظرها. تقابل البطلة الدادة، بعد مرور السنوات، لا تتعرف الأخيرة عليها، كأن الموت قد نسيها، رغم أن الموت نفسه اقتلع ابنتها، "مي"، شريكة البطلة في الغرفة المعتمة وفي "التختة" الأخيرة وفي الموت المنتظر.


     لا يختلف "ثقب" القصة الأولى، كثيراً، عن "الفجوة السوداء"، في قصةٍ متقدمة تحمل العنوان نفسه. كلاهما مكانه القلب، واللوذ بالغرفة الضيقة في الأولى، يوازيه اللوذ بنافذةٍ صغيرة، تحتلها امرأة تعيش مع رجلٍ لا تحبه. احتمالات الموت واحدة في الحالتين، والخوف من تسرب خبرٍ سيء يهدد قلب طفلة القصة الأولى، لا يختلف كثيراً عن الخوف من تسرب دخان سيجارة الزوجة إلى أنف الرجل، ما يعني تهديداً شبيهاً لحياتها. الغرفة المغلقة لا تختلف عن النافذة المفتوحة، الهواءُ المُعاد كالهواء الجديد، وكأن لا وجود، في الداخل أو الخارج، لملاذ حقيقي تتجاوز الذاتُ عبره التهديد.


 لا نجاة في المحكيتين، كأن النجاة عقاب، تعميقٌ للعزلة، وحيث "لا فرار من الوحدة إلا بالموت، ولا وقوع للموت بغير الوحدة". هذه العبارة، للمفارقة، لا تنتمي لأي من النصين، بل للنص الثاني في المجموعة: "خوف".


     المفارقة يحققها السطر الأول، فاحتضار الجد يتزامن مع تزاحم الناس في البيت، كأنه احتفاءٌ ما بالوداع. هذه المرة تَسرد الذاتُ القصةَ بالضمير الأول، كساردةٍ متورطةٍ، شاهدة على الحياة الأخيرة لرجلٍ، فيما تتهيأ للتحول إلى شاهدة لقبره.


      كالقصة الفائتة، ثمة غرفة تحتضن أفق الاحتضار، لكنها هذه المرة ليست ملاذاً، بل إنها تصير موضوعاً لتهرب الذات. الساردة في هذه القصة مطلقة، حيث لم تعد أنفاسُ رجلٍ ينام إلى جوارها تكفي كمبررٍ لاستمرار الحياة. بين موت الجد وذهاب الزوج، تَعلَق الذاتُ بين تمثُّلين للرجل، كليهما مرهونٌ بالمغادرة، على اختلاف موقفها من الذاتين، استبقاءً وتعجيلاً بالرحيل.


نرشح لك: حينما يتحول الإنسان إلى ذكرى.. قراءة في رواية "أطياف كاميليا" لـ نورا ناجي


     ستلتقط القصة الثالثة هذا الطرف، وكأننا أمام متتالية تُعلن عن قصديتها، أجمة خيط، ما إن ينفلت طرفه حتى لا يتوقف عن "الكر"، وبعودةٍ للضمير الثالث (كأن ثمة إيقاعاً مقصوداً بالتبديل بين الضمائر)، يقع التبئير على امرأة تُنهي حياتها الزوجية. المكان هذه المرة بعيد، مدينة كورية، حتى الأغنية المهيمنة كخلفية، أغنية راي جزائرية لرشيد طه. اغترابٌ كامل، في الخارج والداخل، يدعمه أطباء يتحدثون الانجليزية، وواقعٌ افتراضي يجسده الإنترنت. مجدداً، وكالقصتين السابقتين، ثمة طفلة، ابنة "لم ترد لها حياةً مثل حياتها، تختلس فيها لحظات سعادة ضئيلة في النظر من شباك البيت نحو العابرين، أو أحلاماً متواضعةً تنهار عند أول لمسة للواقع".


     النصوص المتمحورة حول الحياة غير المحتملة بين رجلٍ وامرأة تجمعهما مؤسسة الزواج، تعيد التعبير عن نفسها مرةً بعد أخرى، في السياق نفسه، في المدينة الغريبة نفسها، وبالسمات ذاتها للشريكين، كأن الواحدة منها _ على تباعد المواضع في الكتاب _ تُكمل الأخرى وتعيد تأملها، دون كلل، من زاويةٍ ثانية، ودائماً، بالضمير الثالث، ربما هرباً من سلطة التلقي التي ستبحث، تلقائياً، عن الواقعي في المتخيل إن هي تحققت بالضمير الأول، وربما قمعاً للعاطفية، أو الغنائية حتى، التي قد تمثل فخاً لموضوعٍ محاطٍ بكافة فخاخ الانزياح عن المقتضى السردي إلى الإطناب الذاتي ومجانية التداعي. "شيطان أبيض"، تعيد استقراء هذه العلاقة، عبر القطة المصابة، التي تعمل كمعادل موضوعي مباشر للبطلة نفسها. ترى فيها صورة نفسها، وربما لا تحبها لهذا السبب بالذات، إذ تطرأ في لحظة عدم تصالحٍ مع الذات. في "عروس النبي دانيال"، يحضر القرين مجدداً، لكنه هذه المرة ليس الوجود الغريزي الحيواني، بل الشبح الذي لم يعد له وجود سوى في تاريخٍ موّهته المخيلة حتى تحولت الواقعةُ إلى أسطورة. تسير الساردة خلف زوجها "دائماً يتقدمني بعدة خطوات، يتركني أحمل أكياس المشتريات ويسير هو حراً في الأمام. كنتُ أنظر أسفل قدميّ، أفكر في حفرة قد تظهر الآن وتبتلعني، منخفض أرضي كما قال الشهود، وربما ممر سحري... يأخذني لمكانٍ آخر وزمنٍ آخر". أسيرةٌ قبالة حُر، ومتأخرةٌ أمام مُتقدِّم: هذه هي بتلخيصٍ رمزي طبيعة العلاقة المهيمنة. "الحفرة" هنا لا تختلف كثيراً عن "النوم" في القصة السابقة، في الحالتين ثمة مهرب من الواقع، وفي الحالتين ثمة قصة تعمل كواجهة كي تُسفِر عن وجه قصةٍ أخرى في الخلفية.


     تبلغ هزيمة المرأة ذروتها في نص "فتح المندل"، حيث يصل الاختلاف بصاحبته إلى سقف النبذ، حد أنها تتحول إلى تهديد، يتطلب "فتح المندل"، نصٌ ينتهي بانتقاء الذات، إذ تفقد تجسدها لتتحوّل إلى ظل: "عندما فتح أبي عليّ باب الغرفة، لم يجدني في السرير، بحث في كل مكان لكنه لم يتمكن من رؤيتي، كنتُ ثابتةً في مكاني الجديد على الحائط، ظلاً أسود بلا ملامح". كأن الذات محكومة بأن تكون ظلاً، إن لم يكن لرجل، فلأي أحد.


     لكن الذات، للمفارقة، تنهض في القصتين التاليتين، (وكأن ترتيب هذه المتتالية الثلاثية مقصود)، فتنجح مرةً في الانتصار رغم الندبة، التي تصبح علامةً للانتصار بدلاً من أن تكون علامةً على الهزيمة، ثم يكون الانتصار غير المموه في نص "صمت"، حين تنجح العازفة في تحقيق ذاتها، وكأنها نفس الفتاة التي هربت من بيت الأخ وزوجته في "ثقب ضيق باتساع العالم"، (وهي التفصيلة الموجودة مجدداً في هذه القصة)، وإن كنا لم نعرف هناك ماذا حدث، فإن هذه القصة تجيء كأقرب ماتكون إلى تتمةٍ.


     تعود قصة "انعكاس" للضمير الأول، في تعميقٍ لسؤال الوجود والغياب، لكنها تتقدم بالمجموعة خطوة واسعة للأمام، في الكشف عن العنف المكبوت للذات. "الأنا"و"الآخر"، ذلك السؤال الفلسفي الكبير، يتخذ هنا صيغة صراعٍ شرسة بين فتاتين، حتى أن الساردة، وللمرة الأولى، لا تقدم الموت في شجنه وشاعريته، بل في شراسة الرغبة بالتحول إلى مخلبٍ له. الذات النظيرة، لأخرى متناقضة تماماً، أكثر جمالاً وحظاً، تجعل من الساردة ذاتاً معبأة بالانتقام. تقدم هذه القصة مفارقةً فادحة في النهاية، إذ حين ترى الساردة عدوتها، حية بعد أن طالعت خبر موتها، وعندما تتجرأ لتلمسها حين تراها بشكلٍ عابر بعد قراءة الخبر، كي تتأكد أنها ما تزال حية، تصعقها برودة المرآة. نحن إذن أمام ذاتٍ منقسمة، الآخر هو الأنا، والمرآة _ التي هيمنت على رواية "أطياف كاميليا" للكاتبة نفسها_ كثقبٍ أسود يبتلع كاميليا الأخرى، إذ تقارب الرواية الفكرة ذاتها المتمحورة حول الأنا والآخر، تُبدِّل وظيفتها هذه المرة، فالمرآة هنا لا تبتلع الآخر، لا تحضر كمعادلٍ لموته، بل تبعثه، كتأكيدٍ على حياته. امرأةٌ تدخل المرآة روائياً، وامرأةٌ تخرج من المرآة قصصياً، وفي المرتين، ذاتٌ تبحث عن ظلها، الذي يشاركها الاسم مرة، ويشاركها الهوية الفنية مرةً أخرى، مؤرجحةً بين الائتلاف والاختلاف.


     في القصة الخامسة، "غرفة فارغة"، يحضر الرجل لأول مرة بطلاً. بالضمير الثالث تراقبه الساردة، مثلما يراقب هو، الفتيات اللائي يؤجر لهن الشاليه عبر كاميرات مراقبة، وقد تكون الساردةُ إحداهن. رجلٌ يختصر حضور الذكورة في هذه المجموعة: الرغبة المريضة المقموعةٌ في الواقع. وربما تحيل هذه القصة إلى طبيعةٍ أخرى تحكم علاقة المرأة بالرجل في النصوص، فمع إخفاق مؤسسة الزواج، تنهض صيغةٌ لا تقل إيلاماً في تجريب الحب خارج المؤسسة، علاقةٌ تحكمها المراقبة والتلصص، الملامسات العابرة والقبلات المرجأة والغرف الذهنية وأحلام اليقظة التي تطفو فوق مقدرات الواقع، منذورةٌ، بلا استثناء، للابتسار.



 غراميات مقموعة


     الحب في "مثل الأفلام الساذجة" عابرٌ، كأبطااله، وهو يحاكي بالفعل تلك الأفلام الساذجة. نصوصه موزعة على الكتاب، كأشلاء، لكن، يمكن جمعها في سياقٍ واحد بتجاوز ترتيبها، في "ترميمٍ سطحي"، لتتحقق متتاليةٌ يحكمها القانونُ نفسه، تتجسد بالذات في نصوصٍ ستة: "رومبا"، "مزيل عرق"، "مثل لوحة لإدوارد هوبر"، "تفاصيل صغيرة"، "زار"، "مثل الأفلام الساذجة". رسالة ركيكة من "جزمجي" لطفلة على أعتاب المراهقة، أو مواعدة هشة من رجل تنتهي باكتشاف المفارقة بين الصورة والواقع.. أجنبي عابر، أثناء جولة عمل، أو زيارة لبيت صديق صحفي (في أشد قصص المجموعة تلميحاً لواقعٍ فعلي على مستوى الأمكنة والأسماء والوقائع)، مضمخة بقبلةٍ تندم البطلة على عدم القبول بها، قبل أن تطلبها بعد خمسة عشر عاماً. هذه القصة أيضاً، "زار"، تعتمد بوضوح تقنية "الميتافيكشن"، ( ربما كملجأٍ للتمويه على وضوح تفاصيلها المرجعية التي قد تبدو للبعض نابعةً من السيرة الشخصية)، حيث يعري النصُ نفسه، يحاور الواقعي المتخيّل، ويحضر النظري في علاقته بالمتوهم، بحيث نظل على الحافة بين قصة وقعت بالفعل، وأخرى أنتجتها المخيلة.. وبحيث تكون القصة في النهاية، قصة عن قصة، تحتضنها ورشة كتابة.


      ربما تتوَّج هذه المتتالية بالقصة التي تحمل المجموعة عنوانَها. وحدها، تتحقق قصة "مثل الأفلام الساذجة" بالكامل عبر ضمير المخاطب، وهي أكثر قصص المجموعة شاعريةً وتجريداً، والتفاتاً لسيولة الشحنة الباطنية النابعة بالكامل من الداخل.


     في المجمل، نحن أمام عالمٍ تُجاهد فيه الذوات - أو الذات الواحدة الموزعة على ذوات - كي تتجاوز تحليق الذبابة في قعر الكوب، محملةً بأملٍ دائمٍ، يلوح في الأفق تارة ويختفي تارات، بأن ينفتحَ بابٌ للخروج، بابٌ لا تكف ذوات هذا الكتاب عن محاولة العثور عليه، ولو باختراعه، وحال ظهوره، لن يكون ثمة فارق كبير بين أن ينفتح على سماءٍ، أو مقبرة.


author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات