على شكل صبار
كان قد مر عام على وفاة أخي الأكبر، لم أكن قد أكملت عامي العاشر وقتها، كنت متعلقًا به جدًا، طوال ذلك العام حاولت إقناع أمي كثيرًا أن أذهب معها إلى المقابر لزيارته، لم تفلح توسلاتي وبكائي وخصامي لها بعض الأوقات في إقناعها بأن أذهب معها، في كل مرة كانت تتحجج بشيء ثم تقول إنها تخشى عليَّ.
لم يكمل أخي أسبوعين في جيشه، كان قد تطوع بالإعدادية مع عدد كبير من أصدقائه؛ كي يساعد أبي وأمي في تربية إخوتي، لكنه وبعد عشرة أيام فقط أصيب بالحمى، ذهب أبي ليطمئن عليه، حمل من الطعام ما لذ وطاب، كانت أمي قد استيقظت فجرًا، ذبحت الطيور وطبخت وجهزت الفاكهة، حملها أبي في حقيبة خضراء كبيرة على كتفه، لكنه عاد بأخي جثة.
بعد وفاته بأشهر قليلة، أصبتُ أنا الآخر بالحمى، خشي أبي وأمي من وفاتي أنا الآخر، ذهبوا إلى أكثر من طبيب، كانوا قد يأسوا تمامًا من حالتي، لكنني لم أمت، ذات يوم فتحت باب الغرفة وخرجت، كان أبي وأمي وشقيقي وشقيقتي، يتناولون الغداء، وجدوني واقفًا أمامهم، بكتْ أمي بحرقه وطار أبي من الفرحة، أكملتُ علاجي، وبعد أيام استعدت صحتي من جديد.
ربما لذلك السبب وخوف أمي من رؤيتي لها وهي تبكي أن أتأثر فأتعب، خاصة وأنهم ربطوا فترة الحمى بأنها حزنًا على أخي، لكنني في كل مرة لم أكن أيأس من طلبي، كانت زيارات المقابر كثيرة، السنوية والخميس وطلعة رجب والنصف من شعبان والأعياد ومناسبات عديدة والزيارات تكثر معها، ويومًا ما ستملّ أمي وتوافق على طلبي.
قبل ليلة النصف من شعبان، أرسلتني أمي لشراء دقيق وسمن ولبن، كانت تستعد لصنع «القُرَص»، ذهبت إلى الجُنَيْنَة الملحقة ببيتنا، قطفت التين واليوسفي والبرتقال وما أتيح من فاكهة، ثم عادت، أشعلت الفرن، صنعت الأرز المعمر والخبز والقرص، أحضرت «سبتًا» كبيرًا ووضعت كل ذلك فيه؛ استعدادًا لزيارة المقابر.. قبل أن أنام، مالت أمي نحوي وأخبرتني ألا أغضب، ستأخذني أخيرًا معها بعد عام من الإلحاح.
مع طلوع الفجر أيقظتني أمي، وجدتني بكامل ملابسي ومستيقظًا، لم أنم من الأساس؛ استعدادًا لهذا اليوم، فتحت حصالتي كان بها 3 جنيهات، رقم كبير في بدايات التسعينات، لكنني لم أكن لأعزهم على أخي أبدًا، لو كان حيًا لاشتريت له بهم سجائر وحلويات وكل ما أراد.
في أحد الأيام لم يكن معه مال يشتري سجائر، تبرعت من نفسي، فتحت حصالتي، كان بها جنيه واحد ادخرته من مصروف العشرة قروش يوميًا، ذهبت إلى محل البقالة، اشتريت سجائر، أخفيتهم في كُمّي كما كان يفعل أخي، ذهبت إليه، أعطيتهم له، سألني من أين! حكيت له ما حدث، قبّلني ووعدني بأنه سيعيد لي الجنيه بأكثر، حكى لي عن أحلامه ورغبته في أن يساعد أبي وأمي في تربيتنا، وأنه يلعب كمال أجسام ليكون جاهزًا للتطوع، أشعل سيجارة منهم لكن أبي دخل فجأة.
رأى السجائر في يديه، صفعه، ألقى بالسيجارة على الأرض، أمسك علبة السجائر، فركها بيديها وحذره من تكرار ما فعل، قال له إنه رياضي ولا يجب أن يشرب السجائر؛ خوفًا على صحته، لكنني ورغم ذلك، تعاملت مع الموقف على أنه تناقض من أبي؛ لأنه يشرب السجائر بشراهة.
انتهى كل شيء، غاب أخي، واليوم ولأول مرة سأزوره في مكانه الجديد، لم تخفِ أمي دموعها، كانت الطرقات في القرية لا تخلو من نساء متشحات بالسواد، يحملن على رؤوسهن الأقفاص الصفراء المصنوعة من البوص، وعلى المقابر عشرات الأطفال بمجرد أن يرون إحداهن قادمة، يلتفون حولها طلبًا للصدقة، قبل دخولي إلى مقبرة العائلة، جذبتُ يد أمي، منحتها الثلاثة جنيهات، قلت لها: صدقة على روح أخي، غابت عيناها بسبب الدموع، احتضنتني بقوة وقبّلتني.
لم تكن المقابر هادئة، عشرات الأطفال والمُقرئين والنساء القادمات لزيارة ذويهن، وأنا أتفحص الجميع، أرى أمي وهي تفتح السَّبَت تمنح هذه قرصة وأخرى برتقالة ويوسفي، وبعض القروش (10 قروش و5 قروش و25 قرشًا)، أما المقرئين فلهم أكثر من ذلك.
أنهت أمي زيارتها، قرأنا الفاتحة، قلت لأمي أين تذهب جثث الموتى، أمي هادئة وحكيمة في طبيعتها، لم تتلق تعليمًا حقيقيًا، لكنها كانت لديها ما هو أكثر من التعليم، لديها قبل وإيمان فطري غريب عرفت قيمته حين كبرت وخالطت أشكالًا وأجناسًا مختلفة من المتدينين، قالت أمي إن الأرض التي تنبت الزرع تبنت لأنها تشرب الموتى، أشارت إلى الأشجار والطيور والماء، هل ترى كل هذه، الأشياء تتغذى على من يموت، ومن يموت يمنح من يعيش الحياة، وهكذا وكل منا له دور، يمكن أن ترى الموتى في الطيور وفي كل شيء.
بعد شهور من تلك الزيارة، اقتحمتْ منزلنا للمرة الأولى ذبابة زرقاء، كانت غريبة عكس الذباب الذي اعتدناه، أكبر حجمًا وأفقع لونًا وأجمل أيضًا، حاولتْ مطاردتها، لكن أمي صاحت بينما طلبت مني أن أوقف المروحة وأن أتركها تحوم في البيت كما تشاء، فعلتُ ما قالت، كان الأمر غريبًا خاصة حين مدت أمي يديها لها، لتحط عليها وتقترب من وجهها ومن وجهي ثم رحلت.
قالت لي أمي إنها الزيارة الأولى لأخي، فحين نموت تأتي أرواحنا في صورة الذباب الأزرق لزيارة البيت، منذ ذلك اليوم كنت كلما رأيت هذه الذبابة، أغلقتُ المراوح وتركتها تحط على وجهي، وتطوف في البيت ثم تغادر، بعد سنوات طويلة ماتت أمي وأبي وغادرتُ قريتي، لكنني ما زلت أؤمن بأسطورة أمي، أن الموتى تشربهم الأرض فتنبت الزرع وكما أنهم يطيرون في السماء والماء وفي كل شيء حولنا، لم أسأل عن غياب أبي وأمي ولا شقيقي، يكفي فقط أن أتابع حركة الطير وأستمتع برؤية الأشجار، وحين أموت أحب أن أكون على شكل صبار.
** قصة من المجموعة القصصية "للمحبين والأوغاد وقطاع الطرق" للكاتب محمد البرمي، الصادرة حديثا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب