القائمة الرئيسية

الصفحات

إبراهيم عبد المجيد: السينما سبقت الأدب في حياتي والرواية الجيدة تصلح لكل زمان



حوار: أكرم محمد


على عتبات البناء الفلسفي، والبناء الروائي لأعمال الأديب الكبير إبراهيم عبد المجيد يربض الواقع المسرود، والحاكي للهائمين في الحياة، والتائهين في لب وجنبات وسعادة وليلاء أيامها.. الباحثين عن الحرية، والباحثين عن الحياة بمختلف أشكالها ومعانيها وصورها. ذلك الواقع يعد أحد أهم أعمدة البنية الروائية والفلسفية في روايات "عبد المجيد".


يمكن القول أن سردية البحث هي أكثر ما تميز كتابات إبراهيم عبد المجيد.. البحث عن الواقع، عن المكان، عن كتابة إنسانية، تعبر عن كل زمان ومكان، البحث عن معنى الحرية، عن الإسكندرية، المكان النابع من بحرها كل حي، وعن المكان بمفهومه الواسع وموقعه من الفن والأدب، سواء في سكناه داخل ألباب الفنانين وإبداعاتهم أو داخل تلابيب النص، وثنايا جسده الرابضة في مشروع أدبي متكامل.


كتابات أديبنا الكبير الغارقة في البحث، والتي تجعل من المكان سواء كان واقعيا او افتراضيا - مثلما حدث في روايته "في كل أسبوع يوم جمعة" - أحد أبطال العمل الرئيسية، محاولا تحليل وتفسير تغيرات النفس البشرية لأبطال رواياته، من خلال علاقتها بالمكان وتفاعلها معه.


وفي حوار خاص لمدونة "مكتبة وهبان"، تحدث "عبد المجيد" عن عوالمه الروائية، وعلاقته بالفن والسينما تحديدا، وكواليس كتابته للعديد من الأعمال، ورؤيته للإبداع وللكتابة التاريخية



- في العديد من رواياتك، وبالأخص ثلاثية الإسكندرية، تجمع بين السرد التاريخي والسرد الإبداعي.. فكيف ترى هذه الثنائية السردية؟ وكيف ترى موقعها من رواياتك؟ وكيف ترى موقع السرد التقريري من الرواية؟

 

ليس هناك سرد تاريخي لكن هناك أحداثا تاريخية وأحداثا محلية تحيط بالسرد الإبداعي أردت بها أن أحمل القارئ إلي ذلك الزمن بما فيه من أحداث كبرى، وأحداث تثير الألم أو الضحك في الحياة المصرية وسط ما يحدث في العالم. أنا لي وجهة نظر في الرواية التاريخية وهي أن أحمل القارئ إلى هناك، لا أعيد تفسير الأحداث بما يتوافق مع أفكار المؤلف، لا أبحث عن بطل تاريخي يشبه مثلا جمال عبد الناصر، أو عن بلد ضاعت تشبه فلسطين، وجهة النظر المسبقة في التاريخ لا أميل إليها، أحاول أن أعيد الفضاء بقدر الإمكان بما فيه من تناقضات. وليس هناك أي سرد تقريري فلم يحدث مرة أني قلت هذا خطأ وهذا صواب إلا إذا كنت تقصد المعلومات. فعلت ذلك في ثلاثية الإسكندرية فقط لأنها عن أزمان سابقة وأحداث كبري ومكان واحد وتغيرات كبيرة في شكل وجوهر المدينة.






- دائما ما تكون كتابتك عن الإنسان وللإنسان.. فكيف ترى موقع الكتابة الإنسانية من كتابتك؟ وكيف ترى موقع الكتابة الانسانية من الرواية العربية؟


أي كتابة ناضجة لا بد أن تكون إنسانية، حتي الأشرار هم في النهاية بشر. والإنسانية لا تعني التعاطف أو الكره، لكن تعني التصوير الفني الصادق للشخصية. هذا فهمي للإنسانية التي يختلف عليها الناس. المعيار في الفن هو التصوير الفني الصادق الذي يشمل الأخيار والأشرار.



- غالبا ما تتغلغل السينما في نصوصك، وتقبع روحها في لغتك، حدثنا عن علاقتك بالسينما، وكيف أثرت على كتاباتك؟

  

السينما سبقت الأدب في حياتي. كانت السينما فسحتي العظيمة التي جعلتني منذ المرحلة الابتدائية بدأت في التزويغ من المدرسة، في الإعدادي والثانوي كان لنا يوم الإثنين في سينما الهمبرا ويوم الخميس في سينما بلازا، وإذا كانت نقودي قليلة فسينما النيل أو سينما الهلال بتسعة مليمات. في الثانوي توقفت عن سينما الدرجة الثالثة بعد أن عرفت سينمات المنشية ومحطة الرمل مثل ركس والشرق والهمبرا وبلازا وفؤاد، وصار أول الشهر هو الموعد مع سينما الدرجة الأولي، مترو وريالتو وأمير وغيرها لأن أبي يعطيني مكافأة ربع جنيه، وما أدراك ما الربع جنيه في ذلك الوقت. أخذتني السينما إلى قراءة الروايات لأني كنت اقرأ على الأفيش اسم الرواية المأخوذ عنها الفيلم. أخذتني السينما إلى الملاحم اليونانية. أخذتني السينما إلى فهم الإيجاز في تقديم صورة أكثر من الحكي الطويل، هكذا تكون الكتابة رغم أن الأديب يستخدم اللغة لا الكاميرا، الحذف لا الإضافة هو أهم ما فهمته من تقديم صورة أو موقف.





- حكيت عدة مرات أنك كنت تكتب في الصحافة نهارا، وفي الفن والأدب ليلا وكنت تجمع بينهم.. فكيف ترى علاقة الصحافة بالكتابة الإبداعية؟


هذا موقف يخصني. وحياة الأدباء والفنانين نسبية لا تنطبق على كل الناس. أنا أعرف أن الصحافة التزام وعمل يومي ولغة سهلة للقارئ، بينما أحب الليل والنوم متأخرا لا أذهب بعده إلى أي عمل غصبا. كما أني أعرف أن لغة الرواية تأتي من شخوصها وليس في الرواية لغة واحدة، لكن هناك من الصحفيين من يستطيع أن يتواءم مع عمله. كلنا أحرار فيما نختار، أما كون الليل للإبداع والنهار للمقالات فذلك بالنسبة لي أيضا لأني أشعر أن الإبداع ابن الروح وليس العقل لذلك أنفرد به وسط الليل حتي الفجر مع الموسيقى التي تحملني إلى السماء فلا أشعر بوجود شيء حولي، بينما المقالات بنت العقل ولذلك اكتبها نهارا وأراجعها في نفس اليوم. الرواية لا تنتهي في يوم ولا تراجع في ساعات.



- في أكثر من رواية لك مثل "بيت الياسمين" و"ثلاثية الاسكندرية" و"البلدة الاخرى"، ترسم لوحة للإسكندرية ومنها تخرج لوحة للعالم الإنسان في كل زمان ومكان.. فهل تفضل الرمزية والإسقاطات في كتاباتك؟ وما هو تأثير الإسكندرية وروحها على نصوصك؟


أنا لا أحب الإسقاط أو الرمز، أنا أحب التصوير الفني للشخصية، هذا التصوير الفني يجعلها لا تمثل إلا نفسها خيرا أو شرا. قد يري فيها القارئ غير ذلك، لكن هذه حرية القارئ وفهمه. أما الإسكندرية فكما كتبت كثيرا من قبل، الإسكندرية زمان طبعا تعطيك إحساسا بالحرية، ما أن تصل إليها حتى تريد المشي على شواطئها وفي شوارعها. على عكس القاهرة تدفعك للتفكير في العودة من الزحام أو السكون. حين كتب نجيب محفوظ عن الإسكندرية أو استلهمها في رواية "اللص والكلاب" عام 1961 تغيرت لغته، فصارت سريعة الإيقاع شعرية التدفق، ولم تعد عباراته كلاسيكية هادئة كما كان الأمر من قبل وهو يكتب عن القاهرة. الآن تساوي الإثنان للأسف، الإسكندرية والقاهرة صارتا قرى عشوائية.



- تقطن الثنائيات، الفلسفية والسياسية والاجتماعية في عديد من المشاهد في نصوصك.. لماذا؟

 

الفلسفة هي الأفق الذي قد لا تعرفه الشخصيات نفسها، الشخصيات الهامشية مثلا يمكن أن تثير الفلسفة في عقلك حين تجد شخصا يقول لك مثلا: "أنا كل يوم أروح الشغل وارجع مش عارف ليه"، هذه أفكار وجودية لا يعرفها قائلها، أنا رأيت الفلسفة في سلوك الناس قبل أن أقرأ فيها، هي تظهر في المواقف لا الحديث المباشر.


الرواية أحداث ومواقف قد تكون لها دلالات فلسفية، أما السياسة والمجتمع فهما طبعا في خلفية الصورة، فمنهما تحدث الصراعات، لكن أيضا بشرط أن لا يتحول الأمر إلى أفكار مباشرة، بل إلى مواقف وحركة وصور توحي بالأفكار، فالفن يختلف عن الفكر.




- أعمالك تعبر دائما عن عصرها وتتلون بلونه؛ ففي "لا أحد ينام في الاسكندرية"، رغم أنها تعبر عن كل زمان، إلا أنها ترسم مشهد للإسكندرية، والريف في الأربعينيات من القرن الماضي، ورواية " في كل أسبوع يوم جمعة " تتمسك أواصر حبكتها بعصرها.. فكيف يؤثر الزمان في الكتابة؟

 

إذا كانت الرواية ناجحة فنيا فهي تصلح لكل عصر بصرف النظر عن موضوعها، نحن نقرا الروايات التاريخية مثلا ليس حبا في التاريخ لكن حبا في شخوصها وحركاتهم الفنية والغائب عنا. وكما يمكن أن يعطيك الزمان رواية قديمة الأحداث يمكن أن يعطيك رواية معاصرة الأحداث لكن المهم كتابتها فنيا.



- هل ترى أن الكتابة إلهام أم التزام؟ وهل يجب على الكاتب الالتزام بميعاد للكتابة أم عندما يجيئه إلهام، وتهيم روحه في عشق لحظة معينة للكتابة فيها؟


هذه أيضا نسبية بين الكُتاب، تختلف من كاتب لآخر. أنا أرى ورأيت في حياتي الكثير مما يصنع القصص والروايات، لكني اعتمد على النسيان. أترك كل ما يخطر ببالي يزحف إلى اللاشعور مدركا أن ما سأحتاجه سيأتي يوما ما. وأيضا في الكتابة عندي شيء من التعود على الليل، لذلك لا يداهمني اللاشعور برغبة قوية في الكتابة بالنهار. يمكن جدا أن أشعر برغبة في كتابة شيء، وما أن أجلس إلى مكتبي حتي أجد نفسي أكتب شيئا آخر . لا أتردد في كتابته وأعرف أن مافكرت فيه قد تأخر وسيأتي . وحتى إذا لم ياتي فلن ينتهي العالم.



- دائما ما تكون كتابتك لكل زمان وكل مكان.. فكيف ترى تأثير الأدب على اللحظة التي يتلقاه فيه القارئ؟


 أنا لست مغرما بالقول أن الأدب يغير العالم، لكن مؤكد أن الأدب يغير قارئه، يصنع منه إنسانا سويا يحب الجمال. السعادة التي تنتقل إليه بقراءة عمل جميل تتحول إلى سلوك جميل مع غيره في الحياة، بل يمكن أن تغير حياته هو نفسه فيصبح أكثر طموحا للأفضل. ما أكثر ما قابلت من شباب يحكون لي كيف تغيرت حياتهم بعد قراءة رواية لي، فصاروا يحبون القراءة وشراء الكتب ونجحوا في دراساتهم وهكذا.



- صدر لك عدد من الترجمات، فكيف ترى فعل الترجمة.. هل هو فعل إبداعي تفاعلي أم لا؟ وهل للمترجم أن يغير في النص؟


الترجمات ليست كثيرة، هما كتابان فقط "مذكرات عبد أميركي" لفريدريك دوجلاس، و"رسائل من مصر" للوسي دوف جوردون، لكن لأني اقرأ بالإنجليزية فقد قمت بعمل عروض لكتب أجنبية كثيرة جدا في حياتي، كانت هذه هي الطريقة الأسرع للحصول علي مقابل مادي. أنت لن تكتب قصة قصيرة كل شهر ولا رواية كل شهرين، فكانت عروض الكتب طريقة للحياة، كان يمكن أن أكون مترجما لو كرست وقتي للترجمة، لكن الترجمة جاءت صدفة في الطريق، يوما في الثمانينات التقيت مع المرحومة الدكتورة رضوي عاشور وكانت تتابع مقالاتي في الصحف والمجلات العربية، فقالت لي لماذا لا تترجم الكتب التي تقوم بعرضها في المجلات؟ قلت لها الرواية تأخذني أكثر للكتابة. قالت لي لديّ كتاب مهم عن حياة عبد أمريكي ليتك تترجمه، فترجمته. ومنذ أربعة أعوام اقترحت عليّ الصديقة سالي سليمان، وهي من العاملين في السياحة، أن أترجم "رسائل من مصر" وكان السبب أني قلت لها لقد انتهيت من كتابة رواية وأشعر بالفراغ، اقترحت عليّ الكتاب، قرأت فيه فأعجبني فتفرغت لترجمته كاملا.






- دائما ما يكون المكان بطلا في نصوصك الأدبية، سواء كجامع للشخصيات أو عنصر صاحب بعد رمزي أو حتى هذا العنصر الذي يدور فيه الأحداث، حتى لو كان المكان افتراضيا، مثل رواية "في كل أسبوع يوم جمعة" .. فكيف ترى موقع المكان من الأدب؟


المكان صانع البشر.. الرعاة في الصحراء يختلفون عن الرعاة بين الغابات. الزحام يصنع فوضي في السلوك بينما الحدائق والاتساع تصنع جمالا في السلوك، المكان باقٍ والإنسان زائل وحين تتغير الأماكن فهو أمر مغري للكتابة عن ذلك. المهم أن تدرك أن لكل مكان لغته ومصطلحاته. وحتي تكوين جمله وعباراته، أنت علي البحر وحيدا في المساء ذكرياتك لغة في عبارات طويلة، بينما في القطار فعباراتك قصيرة مع السرعة. التأمل في الصحراء غير التأمل وسط الغابات، وهكذا..



- تجمع رواياتك العديد من أنواع الفنون، مثل : الشعر، والمسرح، والسينما، فهل تتعمد ذلك؟


ظللت اسمع الأغاني وأحلم أن أتعلم الموسيقي. مع الزمن اكتفيت بالاستماع إليها وإلى الموسيقي الكلاسيكية حين صرت شابا وحتي اليوم، تقدمت في فهم الموسيقى الكلاسيكية وصار شغفي بها هو عمري كله بالليل وأنا اقرأ أو أكتب. طبعا صارت رافدا لرواياتي حتى جاء يوم كتبت فيه رواية "آداجيو". الأمر نفسه مع الفن التشكيلي عرفت أهميته متأخرا في شبابي لكن صارت متعتي هي زيارة المتاحف ومعارض الفن التشكيلي في مصر والعالم. تعلمت منه كيف تكون الرواية مثل لوحة تشكيلية تتعدد فيها أدوات التعبير التي هي لغات الشخصيات في الرواية دون نشوز للون عن البناء. السينما وحدها كانت الأسبق، كذلك المسرح علمني الحوار الموجز الدرامي. أما الشعر فتعلمت منه كيف تكون الرواية شعرية، لا من لغتها البلاغية، لكن من تكوينها الفني وتنوع لغة شخوصها بما يتفق مع ثقافتها وزمانها ومكانها، دائما أقول ذلك، شعرية الرواية ليست من بلاغة اللغة لكن من تكوينها الفني.




author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات