إسلام وهبان
“لم أشعر حتى الآن أنه قد رحل… فشل الجميع في إقناعي بذلك! فأحاديثنا لم تنقطع، ونصائحه لا تغادر أذني، وصوره ما زالت تملأ الجدران بهجة، وضحكته يتردد صداها كل يوم وأنا أقرأ كلماته التي خطّها لي، ورائحته تعطِّر البيت، وحبه لم –ولن- يفارق قلبي.. ما زلتُ أذكر اللقاء الأول، والنظرة الأولى، والكلمة الأولى، والابتسامة الأولى، والنكتة الأولى، والخلاف الأول، والضجة التي أحدثها زواج رجل يقترب من الخمسين بفتاة في العشرينيات. وما زلت أتعلم منه وأحاول أن أسير على خطاه، وأن أحقق له ما أراد، فقد وهبت حياتي له ولشعره الذي عاش مخلصًا له، وصادقًا في كل كلمة خرجت منه على الورق…”
في كتابها “مذكرات نهال كمال” والذي يعد باكورة إصدارات دار “ريشة” للنشر والتوزيع، حاولت الإعلامية الكبيرة، أن تكشف لنا جانبا آخر في شخصية عبد الرحمن الأبنودي، الذي عرفناه شاعرا مفوها وحكاءً عظيما، لتظهر لنا كيف كان زوجا وأبا وقبل كل ذلك رجلا انعكست إنسانيته على معاملاته وعلاقاته وكتاباته فوصلت بصدق لقلوب الملايين. فعلى الرغم من صدور العديد من الكتب التي تناولت السيرة الذاتية للأبنودي، إلا أن الحديث عنه بلسان زوجته بهذه الحميمية والدفئ والوفاء كان له طابعا خاصا، تحديدا فيما يتعلق بمشاعرهما وأسلوب التعامل بينهما ومدى تعلق كل منهما بالآخر.
طبعا أحباب
لم يكن زواج الأبنودي ونهال كمال، مجرد زواجا لشاعر شهير في عقده الخامس من إعلامية شابة في العشرين من عمرها، بل توافقا روحيا وعقليا تدافرت كل الجهود لتتويجه، بداية من الصدفة التي جمعتهما في إحدى أمسيات الخال في الإسكندرية، والتي غيرت رأيها في شعر العامية، بعد أن كانت رافضة له ومن عشاق الفصحى، وصولا إلى صداقة تمتد لسنوات، حتى تدخل الحاجة “فاطمة قنديل” والدة عبد الرحمن الأبنودي، وتنصحه بالزواج من نهال، وأنها الزوجة المناسبة له، ليبدأ مشوار إقناع أهلها بزواجهما والذي قوبل بالرفض بشدة في البداية، لكن سرعان ما استطاعا إقناع الأهل بالزواج.
ما يميز مذكرات نهال كمال هو الحب الذي يملأ كل تفصيلة، كل موقف، حالة من الونس يستشعرها القارئ خلال الحديث عن الخال وعاداته اليومية وطريقة كلامه، حنين جارف لرؤيته وسماع صوته حين تقرأ بعض أبياته التي تلازم حديث زوجته عنه، ترى ابتسامته في كل موقف فكاهي يتم ذكره. طاقة حب استطاعة أن تبثها نهال كمال بكلماتها ومشاعرها الصادقة تجاه زوجها، ورغبة كبيرة في إظهار الخال بشخصيته اللينة الودودة المحبة للحياة والخضرة داخل بيته.
الأستاذ والملهم
الكتاب يبرز دور الأبنودي الداعم لزوجته، المؤمن بقدراتها وتميزها، كذلك القوة وعدم التردد والتفاهم الشديد والقدرة على معالجة الأزمات، والذي يرجع لخبرته في الحياة وفارق السن بينهما. رجل مفعم بالحياة يعلم جيدا كل خطوة يخطوها، شريك حقيقي ليس مجرد شاعرا مشهورا يقضي حياته في السهر، ولا يهتم ببيته أو حياته، بل على العكس تماما فهو عمود البيت ونبضه.
خلال قراءتك لفصول الكتاب تستشهر مدى انبهار نهال كمال بالأبنودي، ليس فقط في السنوات الأولى لصداقتهما أو الشهور الأولى من الزواج، بل على مدار حياتهما معا. حالة من الفخر بمسيرته الأدبية، وأسلوبه في الحياة، وعلاقاته ومحبة الناس له، حتى حبه للطبخ وللطهي تجدها منبهرة بها وبوقفته في رمضان لتجهيز الإفطار بنفسه. حالة تدل على أن الأبنودي لم يكن مجرد زوج وصديق وفي، بل أستاذً وملهما و”ساكن في سواد النني”، حتى أن أغلب مفرداتها التي ذكرتها في الكتاب متشبعة بطريقة الأبنودي في الحديث وكأنها تحكي على لسانه.
– إهداءات الدواوين والأغاني
في حفل تأبين الأبنودي في مجلة روز اليوسف عام 2015، حكت ابنته الكبرى آية، أنه كان يكتب أشعاره في أي وقت، وعلى أي ورقة أو “قصقوصة”، وأن كثير من هذه الكتابات محفوظة بخط يده في مكتبته بمنزل الإسماعيلية.
وفي الكتاب تجد العديد من الإهداءات التي كتبها الأبنودي في أعماله بخط يده لزوجته وأم بناته، إهداءات غاية في الرقة والحب، لا تتمالك إلا أن تبتسم حين تقرأها وترى توقيعه المميز، وبخلاف إهداءات الكتب والدواوين، فقد أهدى الأبنودي نهال كمال عددا من الأغاني التي تغنى بها الكثير من المطربين، مثل أغنية “قبل النهار” و”طبعا أحباب”، لكن الغريب أن الأبنودي استلهم أغنية “سنة واحدة وعملت كده فيا” لنادية مصطفى، من حديثه مع نهال كمال، حيث سألته في مرة قائلة “سنة واحدة وعملت كده فيا؟ أومال لو عيشت معاك سنتين؟” ليعحب جدا بما قالت، ويخبرها أنها ستكون مطلع أغنيته المقبلة
اللحظات الأخيرة
من الأصعب أجزاء الكتاب، الفصول التي تتحدث عن الفترة الأخيرة في حياة الخال، فرغم تعرض الأبنودي للعديد من الأزمات الصحية خلال حياته، إلا أنه لم يكن يهتم بالحديث عن الموت بل كان محبا للحياة والعطاء والسفر، لكن في آخر عامين بدأ يشعر باقتراب محطته الأخيرة، فبحث عن مكان قريب من منزله بالإسماعيلية لبناء مقبرة، فضلا عن تلقين زوجته لوصيته وكيف ستتصرف في الأمور المتعلقة بتغسيله وتكفينه وتلقي العزاء.
لحظات عصيبة استطاعت نهال كمال أن تعبر عنها بعد اشتداد المرض على الأبنودي ونقله للمستشفى وملازمتها له، ودخوله في غيبوبة، وتضرعها للمولى في صلاتها كي ينجيه من هذه المحنة، ثم لحظة الوداع ورحيله بمجرد وصول بناته للمستشفى، وحالة الهدوء والصبر التي كانت عليها بعد خبر وفاته، وكيف مرت الأيام من دونه، بل وكيف عاش في كل شيء حولها رغم الرحيل.
الكتاب رغم عدم احتوائه على تفاصيل جديدة عن حياة الأبنودي الأدبية والفنية، إلا أنه يحمل الكثير عن قلب الأبنودي وصفاته الإنسانية، لا يمكن أن نقول أنه سيرة ذاتية للخال، بقدر اعتباره “سيرة الحب” التي جعلت الأبنودي باقيا “في سواد النني” وكشف عن جانب آخر في حياة “درته المكنونة” نهال كمال..
.. تم النشر لأول مرة بموقع إعلام دوت كوم، بتاريخ 8 أغسطس 2020
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب