محمد أسامة
وأنا أقرأ المجموعة القصصية "بالأمس حلمت بك"، للأديب الراحل بهاء طاهر، عادت بي الذاكرة لرمضان عام ٢٠١٦ حيث تابعت وقتها مسلسل لخالد الصاوي "هي ودافنشي" والذي كان يتناول فكرة مشابهة، عن الروح الحرة التي سئمت من ضيق حال الجسد، لتهيم باحثة عن خليلها المخلص بشكل يفوق استيعاب العقل، ولكن رغم انبهاري وقتها، فإن القوالب المحفوظة عن الخير والشر، أو الابن الغني المدلل، أو صورة مكررة للمناطق الشعبية، جعلت الفكرة ساذجة، مجرد اثنيت تلاقت أرواحهما فيندهشا، ويلوذا بالعالم الذي لم يصدقهما واتهمهما بالجنون، ثم لفة كبيرة جدًا إلى لقاء معروف ليرينا أن البطل على حق دومًا.
"يحزنني أن هذا الغراب على تلك الشجرة تعيس. ويحزنني أن يكره الناس في العالم كله الغراب مع أنني لم أسمع أنه آذى إنسانا".
نرى في قصة بهاء طاهر وصفًا هادئًا لمعاناة بطلها، يضع الغراب البغيض في قصص الجدات القديمة والأمثال التي أتى عليها الزمن مثلا أعلى، فهو وإن كان حظه جيدا في حياة هادئة، لا يرى نفسه أمام الواقع البارد الذي يضع لنفسه خطوات ثابتة لا يحيد عنها، سواء في الخير أو الشر، دوامة يتقاسم فيها بطل الرواية مع "كمال" و"آن ماري" خط واحد، بدايته الضباب فلا يجدوا أنفسهم وذواتهم الحقيقية ولا يفهمون سرها، ونهايته شعور نابع من أنفسهم، بأن الناس لا تريدهم، وأن هذا ليس زمانهم فلا هنا من يصدق فرادتهم- كما الغراب الذي تفرد بتعليم الدفن لبني آدم أول مرة- فيحتمون بالعزلة ويحلمون بخيمة بسيطة في الصحراء مثلما بحث الغراب عن الصفصافة كما يحلم كمال، يصدرون شكواهم منها وعتابهم كنعيق الغراب البائس مثل آن ماري، أو على الأقل يهرب متناسيا تفرده وأفكاره كما فعل بطل القصة.
"قال: لغة طريفة معظم الحروف تكتب تحت الأسطر قلت له: إنني لا أفهم فأمسك الكتاب وفتحه وأشار إلى الراء والواو والزاي وإلى الميم والعين والحاء في أواخر الكلمات أشرت بانتصار إلى الألف والباء والدال والطاء قال: ولكن عندما تنظر إلى الصفحة تلاحظ أن معظم الحروف تحت السطر. سألته عن معنى ذلك فقلب كفيه".
وكما يقال أن اللغة هي مفتاح القوم، جاءت اللغة هنا لتعكس فكرة لها جزءا كبيرا من القصة، فنرى اللغة هنا مفتاحا للنفس، تعرض قصتها وخلجاتها من التزام لحاجاته البسيطة من أكل وشرب ومتعة، كأنه يمشي على السطر، وتخفف يجعل روحه المحبوسة تتحرر، وتسمو راقصة على أسطر الحياة كرقصة المولوية الصوفية لتجعل لها معنى، تنفصل عن صخب الدنيا، فتهيم ودليلها القلب لتلتقي بخليلها.
وربما بفضل حريتها نجدها مطاوعة القلب، فتصنع بما احتفظ به من براءة وسط عبث الحياة صورة فريدة للطفولة الهادئة، في حلم "آن ماري" بالسلام، أو في حديث "حمدي الصوفي" عن بستان يغمر روح بطل القصة الشفافة، تتعزز وتشتد في رؤيتها لمن يقول ولو بالإيماءة أنا أفهمك وأشعر بك، ولكن وسط عالم كئيب معتم، بارد كالثلوج ولا يهوى إلا الزحف على السطور، تتهشم البراءة ويخرب البستان، ويصير بطل القصة غريبا كما كان، يقف موقف المتفرج دونما أي فعل، مثل السيدة العجوز التي تحدثت عنها "آني إرنو" في روايتها "شغف بسيط" والتي لا تجد الكاتبة لها ميزة إلا جملة عاشت طويلا، وهذا مثلما كان يرى مشهد المرأة العنصرية في المغسلة بعينيه دون أن يفعل أي شيء، وحسبه بأن يمد يده حينما تتحرر الروح في وفتها لخليل أو رفيق.
تأتي حكايات "كمال" الطريفة عن أحلامه -كأن يحكم بين معاوية بن أبي سفيان والحسين بن علي، ثم يحبس بجوار طه حسين فيهرب لوسط البلد- متسلسلة لترينا تشتته وترنحه بين أفكار شتى، أو شعور الضباب الذي ذكرناه سابقا لكي يجد ذاته، تتشابه إلى حد كبير مع قصة نشرت في موقع مدى مصر للكاتبة هبة خميس بعنوان "الانعكاس الذي ابتلع صاحبه" حيث ترى البطلة ذاته المخفية وسط الروتين في المرآة، وبالمثل تلك القصة، فالأحلام هي المرآة العاكسة لما في النفس وإن كانت بصورة غير منطقية من تجميعات العقل الباطن ولكنها كاشفة لما يدور في النفس وما ترغب فيه، والأمثلة حافلة في كتاب البطل بألف وجه لجوزيف كامبيل التي نقلها عن فرويد والتي كشفت عقد نفسية لبعض الناس كذلك.
الخلاصة: يعد بالنسبة لي القراءة الأولى لأعمال الراحل بهاء طاهر، والتي أدهشتني ببساطة طرح الفكرة دونما تقليل منها، كأنها لمسة رقيقة لأولئك الذين يعانون داخل دوامة الحياة ويحاولون على الأقل أن يجدوا ذاتهم حتى في الصور، كأنه يقول أنا معكم وأفهمكم.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب