القائمة الرئيسية

الصفحات

محمد سمير ندا يكتب: حجرات شيرين سامي.. بين ذاكرة المكان والكتابة كأحد وسائل التعافي




ربما اخترتُ قراءة هذه الرواية في التوقيت الخاطئ، وربما فَرضتْ الرواية أجواءها وعالمها عليّ فسببت لي حالة من التشتت والارتباك. الأمر المؤكد هو أننا أمام نص كُتب بأعصاب عارية، سطوره وفصوله تفيض بمشاعر تقطر صدقًا وألـمًا. لا أتحدث هنا عن فئة من الروايات ترتكز على استدرار التعاطف أو دفع القارئ إلى اجترار مآسيه الشخصية التي تتماس في بعض تفاصيلها مع حكاية بطلة الرواية، إنما أتكلم عن كتابة تمثل خطوة واسعة في درب التعافي، كتابة أقرب إلى الاستشفاء بالحبر والورق، يخرج منها القراء، والكاتبة، وقد صار لكل منهم درع أمان حقيقي يسهل الالتجاء إليه كلما قست الأقدار على النفوس، أو انجرفت العقول إلى مجرى القلوب.


علاقة سامة بين زوجين، طرف يعيش بكارة الحلم الأخضر بكل براءته ونشوته، وطرف يمنح بشروط، أهمها أن يعطي ويأخذ ويسمح ويمنع وفق رغبته. أنوثة حالمة ورومانسيّة تُغرق أكثر مما تفيد، في مواجهة غير متكافئة مع عقل ذكوري سلطويّ النزعة. أمور باتت شائعة في يوميّاتنا، حتى أصبح من السهل استنباطها عبر متابعة ارتفاع نسب الطلاق في مصر في الأعوام الأخيرة. علاقة تقليدية تشهد عدّة تحولات وتبدلات ومحاولات مضنية لإخضاع الطرف الآخر، والطرف الأضعف في هذه الحلقة هو المرأة في أغلب الأوقات. 


المرأة التي تنشأ في بلادنا مأمورة بالطاعة، حتى أنها تتعوّد الخضوع للعقل الأبوي (أو الذكوري) بالتزامن مع غزل أول ضفائرها، لذلك فهي مُطالبة باستقبال الأوامر طوال الوقت، أوامر الأب، والإخوة الذكور، ثم أوامر الحبيب فالزوج، وانتهاءً بأوامر الأبناء من الذكور، ناهيك عن أوامر الأمهات اللاتي ترسخ المنطق الذكوري في عقولهن فبتن أشد شراسة من الآباء. نتحدث هنا عن المرأة الـمُطالَبة بتنسيق أوضاعها وترتيب حياتها وأحلامها في الأدراج التي تنمح (أو تترك) لها. 


ومع انفتاح العالم في العقدين الأخيرين، وعقب الربيع العربي تحديدًا، سبحت المرأة العربية في الفضاء الإلكتروني فاكتشفت حقوقًا لها حُرّمت عليها دون منطق أو وجه حق. تلك الحقوق كثيرة تستحق أن تُفرد لها عشرات الصفحات، بيد أن الحق الـمُستلب الأهم الذي تُسلط عليه هذه الرواية الضوء، هو الحق في الاستقلال! 


الاستقلال هنا لا يعني الانفصال، أو الوحدة، إنما يعني حرية أن تكون المرأة ما تود أن تكونه، أن تملك طموحها الخاص، وأن تسترد مفاتيح خزائن الأحلام، أحلامها هي. تلك الأحلام التي اعتادت كل امرأة شرقية أن تظل مُكبلة، مشروطة بصك القبول الذكوري، فإما أن يُسمح لها، أو أن يُحرّم عليها. فماذا عن حقها الطبيعي في تحديد المسار واتخاذ القرار؟

 

هنا تغرس الكاتبة أسنة الأقلام في قلب المعضلة، فمحاولات الإخضاع، والترهيب، والانتهاك النفسي الذي تتعرض له المرأة حتى تخضع أو تفرّ متنازلة عن كل شيء، هو أحد أهم أسباب الطلاق في السنوات الأخيرة، ولعل أغلب حالات الطلاق في مصر بدأت وانتهت بين قوسي هذه الحكاية (اخضعن ... أو تنازلن)، بيد أن الكاتبة هنا تثبت (بل وتصرخ) أن المرأة قادرة على غرس أظافرها وأقلامها في وجه الحقيقة الشائه، حتى لو دوّنت حكايتها في طيّات طائرة ورقية تهبها للريح راضية مطمئنّة. 


دون الخوض في تفاصيل قد تُفسد متعة القراءة لدى البعض، نحن أمام شخصية روائية شديدة الشبه بالكاتبة نفسها، لا يمكن أن نفوّت هذا التشابه الجليّ دون الإشارة إليه. البطلة كاتبة، تخطو خطواتها الأولى في ميدان الكتابة، فلا تجد ثمّة مؤازرة أو تحفيز من شريكها. على العكس، يداهمها الشريك/الحبيب بممارسات يوميّة ممنهجة ترمي إلى التسفيه مما تهوى وتمارس، والتحقير من أهميته والتقليل من جدواه. 

الرجل هنا، أو الزوج والشريك لا يقبل أن تنال (شريكته/زوجته/حبيبته) مساحة من النجاح الذي قد يرخي قبضته على حياته وفق منظوره. لا يرتضي أن تُسلّط الأضواء على المرأة التي اختارته شريكًا لحياتها وأبًا لأبنائهما. عقدة نقص أزليّة تفرضها المعطيّات الذكورية وتأويلاتها لمفهوم القوامة.


فالمنافسة هنا وهمية بفرزها خيال مريض بشهوة السلطة، والندّية لا يُفترض بها أن تزرع الألغام بين شخصين توحدا روحًا وجسدًا. هذا هو معيار الحب ومقياسه الأوحد، وبه تتضح الرؤية بعدما تنقشع غيوم الغرام فتخضع العلاقة لأول وأهم اختبار حقيقي: هل تحققت الوحدة بين الطرفين؟ هل ذاب هذا في ذلك وانصهر ذاك في هذا؟ أم اكتفيا بجسدين مضفورين فوق فراش الغريزة، واعتبرا وحدة الجسد تاج الحب؟ هل ارتضيا بذلك فتجاهلا وحدة الروح التي تحقن الغرام بإكسير الحياة وتُطيل أمد الاستقرار الاستمرار؟ 


حكايتنا هنا حافلة بعلامات الشقاق المبكر، والصفحات المتعاقبة تجزم أن الانفصال قد تم على الأرض قبل أن تثبته الأوراق بعقد من الزمان، والحجة الأبدية حاضرة؛ سأتحمل من أجل أبنائي، أو: سأنتظر حتى يشتد عودهم فيمسي تقبُّلهم الأمر من الإمكان بمكان.


ما هي ميزة هذا النص إذن؟ 

ربما يستطيع للقارئ أن يسرد أسماء عدة من روايات تناولت ذات الفكرة شديدة الالتصاق بالواقع، كما أن الحكايات العامرة برثاء النسويّة وهجاء الذكورية منتشرة وتحقق رواجًا ملموسًا، فما الجديد؟


تقنية الكتابة هنا هي صانعة الحبكة، وعنصر التفوق الحقيقي الذي يرسّخ موهبة الكاتبة شيرين سامي، فعلى الرغم من تكرار عناصر الحكاية، وشيوع مفردات الإخضاع والعنف الزوجي في حياتنا اليومية، إلا أن الكاتبة قدّمت حكايته في إطار مغاير للسائد، ثائر على المألوف. فهي تمزج المكان بالذاكرة، وتطوّع الزمان بما يناسب السرد. المكان هنا بطل موازٍ للراوية الأصليّة، فهي حين تسرد حكايتها مُراوحة بين زمان آنٍ وزمان سابق، تجعل من الأمكنة، أو الحجرات، عتبات لحكايتها. كل مكان شريك في الحدث، وكل حجرة شاهدة على التداعي؛ تداعي هذه العلاقة التي تشكلت نطفةً في رحم الحلم الوردي، ثم اعترتها جملة من التشوهات والانحرافات عن صحيح المسار أودت بالبطلة إلى الارتضاء بالحياة على الهامش.


قدّمت شيرين سامي هنا نموذج الأنثى الضعيفة، المغلوبة على أمرها، المكتفية بالمعارضة الصامتة والنضال الساكن بين بيوت الورق (استفزني ضعفها وصبرها كثيرًا في واقع الأمر!). انتظرتْ بطلة الحجرات خمسة عشر سنة حتى تتخذ القرار بالرحيل، فكانت كفراشة تأبى أن تغادر شرنقتها خوفًا من التحليق! الشرنقة هنا هي البيت، أو إطار الزواج الرسمي، والجناحين المكتملين لم يجاهدا بما يكفي للتحرر. وفي ظل ضبابية موقف أسرتها والتزام الأبوين بالحياديّة خوفًا من تبعيّات القرار؛ كان التحليق خارج جدران الأمان الصوري يُرهب البطلة، ويطمس صراخ بطلات حكاياتها اللواتي كن يطالبنها بالتحليق، لكنها التزمت بالصبر واستمسكت بأوهام التغيير، ناسية أو متناسية أن الرجل الذي لا يقبلها كما هي، لن يتغير إرضاءً لها!


أعتقد أن العنصر السلبي (ربما الوحيد) في هذا النص عميق الأثر، تمثّل في الصفحات الأخيرة، تحديدًا من صفحة ٢٣١ حتى ما قبل عتبة الخروج. أعتقد أن الكاتبة قد انجرفت بحكايتها في هذه الصفحات إلى التنظير والتقرير، وكسرت إطار/ثيمة الحجرات الذي انتهجته منذ بداية النص. جاءت هذه الصفحات في نظْمها أقرب إلى كتب التنمية الذاتية وإدارة العلاقات. كل ما أرادت الكاتبة أن توجزه في الصفحات المعنيّة هنا (من ٢٣١ حتى ٢٥١) سبق تمريره بين الفصول والسطور السابقة، والرسالة المرجوّة كانت قد وصلت بالفعل إلى المتلقّي، لذا لم يكن هناك داعٍ لإدراج هذا (الملخص) غير الضروري بهذه الطريقة النمطية. على الأقل؛ كانت هذه الفصول لتكون أكثر التحامًا بالنص الأصلي إن جاءت في نسق سردي مغاير للنمط الذي جاءت به. وعلى ذلك، لا أرى أن هذه الفصول قد شوّهت النص، أو قللت من استمتاعي به وتوحدي مع بطلته، بل أجد أنها -فقط- لم تكن ضرورية، وأن حذفها لم يكن ليخلخل بنيان النص، أو يشتت مضمونه. وما يشفع للكاتبة هنا علاوة على ما أسلفت، هو النهاية المفاجئة للرواية. نهاية مختلفة تكشف أن المعاناة ليست حكرًا على المرأة، وتفتح آفاق القراء لتصور الكثير مما لم يكتب، ومما قد يُسطر في حياة البطلة فيما بعد.


إن جرأة تقديم رواية (غير تقليدية) تتمحور حول حكاية أو حبكة (تقليدية) -وأقول تقليديّة آسفًا لاستخدام هذا التعبير بينما أتحدث عن اضطهاد المرأة- تؤكد ثراء المخيّلة الروائيّة للكاتبة، وامتلاكها لموهبة حقيقيّة تعضّدها بامتلاك أهم أدوات الكتابة، وأعلى درجات الثقة في النفس. 


نصّ روائيّ جدير بترك أثر عميق في عقل القارئ ووجدانه. جرعة هائلة من المشاعر الصادقة، سواء في لحظات الانكسار، أو سنوات التردد، أو عقب التحليق الأول بعيدًا عن أنقاض غرامٍ قصفته سلطويّة الرجل، وتابعه بدمٍ باردٍ مجتمع أطبق شفتيه على صمتٍ تفرضه الأعراف، وتقدّسه شرائع الأرض لا السماء. 


هذه حكاية تتشكّل من كلمات تذرفها الكاتبة قبل أن تُسكنها الورق، موجعة في مصداقيتها، آسرة بتفاصيلها، مبتكرة في بنائها. قضيتُ عدة أيام أقرأ هذا النص كأنني أسمعه، صوت الراوية مبحوح، نظراتها لم تزل خائفة رغم انتصار التحليق، ضحكاتها تخفي قلقًا غير معلوم المصدر، وفرحتها تتزامن مع عينين تجاهدان البكاء، والمساحيق لا تواري ندبات الزمن، ولا تخفي الهالات السوداء التي حفرها إزميل الخوف والترقّب أسفل عينيها.


رواية قد تدفع القارئ إلى استحضار ذكريات الأمكنة الخاصة به وأرشفتها، أو سنّ الربط بين الحدث والمكان عادة يحرص على نقشها في ذاكرته. دعوة تحفّها المخاطر إلى جموع القراء أن عودوا إلى حجراتكم، مزقوا خيوط العناكب التي عششت فشوشت ذاكرتكم، اقتحموا ماضيكم وانبشوه، علّكم تلملمون من أركان الحجرات أسباب تعاستكم اليوم، فيصوّب بعضكم المسار، ويكتشف البعض الآخر امتلاكه القدرة على التحليق. 


أسئلة أخرى كثيرة سوف تظل معلقة عقب قراءة هذا النص، تتمحور حول تحديد الخط الضبابي الفاصل بين مساحة الخيال في هذا النص، ومساحة الاستدعاء الذاتي لتجربة شديدة الخصوصية. سؤال هام لا أود أن أعرف إجابته!


نرشح لك: حصريا.. ننشر فصلا من رواية "الحجرات" للكاتبة شيرين سامي




author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات