القائمة الرئيسية

الصفحات

حصريا.. ننشر فصلا من رواية "نجع بريطانيا العظمى" لـ حسام العادلي

 



نجع السعداوية


مرت ساعة ولا زال زين علي المقهى ينتظر قدوم عمه حسانين حسب الموعد. يرقُب الزحام المتزايد حوله، ثم نَادى على صبي المقهى، طلب شايًّ ثقيلًا، وتعميرة دخان علي الشيشة. صاح الصبي :

- شاي وشيشة للعمدة..


في المعتاد يَنشرح زين عند تلقيبه بالعمدة؛ يستعيد معه سيرة أجداده . لكن اللقب من صبي القهوة لم يُحَبذه، بل أزعجهُ؛ فقد سمعه يمنَح حالاً اللقب الرفيع - الذي لا يعرف قيمته - لثلاثة من العمال والأرزاقية الجالسين حوله. فطِنَ سريعًا أنه لم يُنَادهِ "بالعمدة" لأنه يَعرفهُ، أو يتوسَّم فيه وقار العُمد الحقيقيين؛ إنما لمجرد ارتداؤه لجلباب صعيدي وعمامة، كسائر العمال من حوله؛ فلا تمييز له أو عصمة، النكرة والمجهول، يُدعي هنا بالعمدة - وعلي سبيل الاستخفاف - طالما لَبِسَ جلباب أو لَفَّ عمامة علي رأسه.


رفض إدراجه مع أولئك العُمال الصعاليك في خانةٍ واحدةٍ، رغم إنهم صعايدة مثله ولكنهم لا يتساوًا معه. وجد نفسه - تلقائيًا - ينفُخ صدره ويَشمخ برأسه للوراء، برَّمَ شاربه، مدَّ ساقه أمامه ليكشف للصبي عن حذاءه اللميع؛ آملا أن يستشعر في هيئته اختلاف عن من حوله ، أو يُعجب بقماش جلبابه الفاخر، وخاتمه الكهرمان ؛ فيحظي بمعاملة تليق بابن عمدة نجع السعداوية ولو كان سابقًا . بينما الصبي لم يهتم بكل ما جاهد في إظهاره ، بقي في نظره مجرد صعيدي وافد في جلباب وعمامة مثل العشرات حوله ؛ جاءه بالشاي في كوب عادي والشيشة رزعها جانبه في غير اعتناء . أجفل زين يلَعَنَ في سِرهُ البندر، يختلط فيه الحابل بالنابل . فَرَّ بخواطره من مكان موحش لا يعرف تاريخ عائلته ، إلي عالم نجع السعداوية؛ المُسمي قبل ثورة ضباط يوليو علي اسم أجداده.


.. السعداوية - أو آل سعد الله: هُم جميع من تنتهي اسمائهم باسم "سعد الله"، جدهم الأكبر الشيخ سعد الله السعداوي؛ المزارع ميسور الحَال ، نسيب العمدة القديم للنجع، أنجب من زوجته - شقيقة عمدة النجع وقتها - أربعة ذكور أشداء أجداد السعداوية الحاليين.


السعداوية كانوًا عائلة متواضعة في النجع، تحقّق مجدهم ابتداءً من محمود الابن الأوسط للشيخ سعد الله؛ بعدما عينَّهُ خاله - العمدة القديم - شيخًا للخفر خلال هجمات المطاريد علي النجع وسائر القري المجاورة، ينزلون علي النجع من شقوق الجبل كالقضاء المستعجل، هلوفٌ مُلَثمون فوق جياد سوداء يشقون الظلام، في أيديهم بنادق محشوّة بالرصاص وزكائب طامعة. يهجمون علي البيوت ينهبون المال ومصاغ النسوان، يسوقون البهائم مُحملة بشكائر الغلة. والعمدة ومن خلفه شيخ الخفر لا حول لهما ولا قوة. أخفق مركز في صدهم، وحتي مع استدعاء شرطة الهجانة بإبلها المُشَرسّة، وعساكرها النوبيين الغُشم لم يُرَّد إجرامهم.


ذَاع صيت المطاريد الجبابرة، وزعيمهم المخيف شيخ المَنسر"رزق" . انتشرت أنباء فظائعهم المُرِّوعة من حدود المركز إلي الصعيد كله، تطايرت أخبارهم مزوّدة بالإشاعات ومفخمة بالتهويل، تتحاكي عن المطاريد سُفراء عزائيل آكلي الأكباد النيئة. فشلت الحكمدارية في ضبطهم أو حتي وَقف هجماتهم، فقرعت الاستغاثات المتوالية بالأمن سمع وزير الداخلية، فأقال حكمدارين للمديرية في غضون ستة أشهُر، ثم بدورهِ عزل الخديو وزير الداخلية عشية هجوم المطاريد علي شونة قطن ضمن أملاك الخاصّة الخديوية، بعدما نهبوها بالإكراه، وقتلوًا حرس الخديوية وسرقوًا سلاحهم. ليظل السيد؛ ابن شيخ الخفر محمود سعد الله، يتقلب ويزِّن غاضبًا كالطنبور من استباحة المطاريد للنجع ووقفة أبيه عاجزًا حيالهم. لم يخشهم الابن الجسور، بل فكر مرارًا في حيلٍ شتي للقضاء عليهم.


.. السيد؛ الابن الوحيد لشيخ الخفر محمود سعد الله: شاب عَفي، طوله مترين ، كفه مثل خُف الجَمل. عاشقًا لساعة الحظ والفرفشة؛ لا يفوِّت ليلة إلا ويركب حنطوره من النجع قاصدًا حانات البندر، غوازي الموالد يُطيِّرنَ عقله، يظفر بوصالهن في سهرات الأنس وشُرب البيرة والبوظة. رغم ذلك يحافظ علي هيبته، يبقي مرهوب الجانب من أرباب الغُرز، إذ لا يتهتك معهم أو يسرف في الشراب، كونه نجل شيخ خفر، فيبقي مرموقًا بين هَليبّة الورق ويتودد له لصوص البندر؛ عساه يفلتهم لو وقعوًا في خيّة الحكومة، مثلما أعان بعض أقرانهم من قبل.


تملّق السيد أحد قدامي البورمجية النازحين من القاهرة إلى الصعيد ، وقد غيَّرَ نشاطه السابق؛ من سَحب وانتقاء العاهرات إلى البنسيونات وبيوت بغاء الأزبكية، إلي السرقة وصار من هلافيت لصوص البهائم. سعي إلى السيد وتعرّف عليه لِمَا سمعه من اللصوص عن قربه منهم ونفوذه؛ تقرّب إليه طامعًا في الحماية، وبخبرته النجسة لمَسَ فيه الولع بالنساء فأغراه بزوجته"حكمت"؛ غازية الموالد البريمو. زيّنها إليه بلسان بورمجي متمرس، يمازجهُ بأكواب عَرق البلح المعَتق معددًا له أوصافها المثيرة: عفيّة، ليّنة الحوض، تفتح ساقيها كحديّ المقص، تُتقن عشرين وضعًا للمعاشرة، نظيفة ليست كغوازي الموالد القذرات؛ ينتف لها بنفسه وبعناية شعر الإبط والعانة أسبوعيًا بأغلي أنواع حلاوة العسل الأسود، شقها رطب ومعطّر بالمسك، لم يرتخِ كأنه لعذراء، فلا يسمح أبدًا بأن يطئها السناكيح، بل ينتقي لها - أمثال السيد - كبار العمد والبكوات. سال ريق السيد على "حكمت" من كلام زوجها عليها. بلا مواربة دعاه الرجل إلي بيته في البندر لقضاء ليلة معها ، ورفض أن يقاوله عليها معتبرًا أن الليلة الأولي بلا مقابل وعربون محبة بينهما.


في صالة البيت فاحت رائحة الشواء المجهز علي شرف ابن شيخ الخفر؛ وأقبلت عليهما حكمت مسبوقة برنين الخلخال المعقود حول كاحلها المدملك: نصف فلاّحة، تتأوّد في جلبابٍ محبوك يهتز فيه جسدها الليِّن. تبدّت في عين السيد أكثر إثارة من وصف زوجها: قمحية، مصبوبة القوام، عامرة الصدر، لا تخرُج أنفاسها إلّا مصحوبة بتنهيدات غاوية، يندلع من عينيها الكحيلة فُجر القُحّاب، وفي غرفتها؛ هيّأ زوجها الخلوة بذات رونق وطقوس بيوت بغاء القاهرة، ومن وراء الباب ، لمّا همد صوت حكمت الصادح بشهوته مع السيد، جهَّز لهما صنية العشاء، وقارورة عرق البلح الفاخر، وعمَّر الجوزة بالحشيش، ثم خبّط عليهما برفق ، وترك اللوازم عند العتبة وانصرف.


وبعد النَوبة الحامية - الثانية الطويلة - معها. سمعَ السيد صوت غريب في البيت غير زوجها، لمّا سألها سكتت، رأى في عينيها النجلاوتين حكاية أصرّ أن يعرفها، همست له في حذر إنه رجل اسمه "عبد النبي" من مطاريد رزق شيخ المَنسر. رمقها مستغربًا هز رأسه يستحثها علي الاستمرار، فاعتدلت وأخذت تحكي: أن ذلك المطرود عَشِقَ امرأة لا مثيل لها؛ ابنة لأحد كبار تجار القطن في مديرية جرجا (سوهاج حاليًا) سمينة مثل قنطار القطن وفي بياض القشدة، فردة الثدي الواحدة أكبر من ثمرة القرع. هربت من أهلها معه بعدما جمعت مصاغها وألفين من الجنيهات الذهبية، ولما صعدت معه إلى الجبل تحالت في عين شيخ المَنسر وطمع فيها، رجاهُ المطرود ترْك مُهجة قلبه مُصانة له، سَبَهُ رزق وضاجعها أمامه بالقوة، استولى على مالها وصاغها، كاد يقتله لولا هروبه، تاركًا محبوبته في حوزة رزق الجبار. المطرود الطافش صديقًا لزوجها، يشتري منه البهائم التي يسرقها المطاريد بنصف ثمنها ، لاذ به مختبئًا في البيت من وجه الحكومة ورزق معًا منذ شهرين، أقام في الغرفة المجاورة نظير خمسون قرشًا يدفعها المطرود له يوميًا، ومطّت شفتيها في امتعاض وهي تضيف أن الوغد يشتهيها، رفضت عرضًا منه علي زوجها أن يضاف نصف جنيه آخر إلي تكلُفة إقامته مقابل مضاجعتها متي شاء.


صبّت للسيد كوبًا آخر من عرق البلح، وهي ترجوه آلا يُبْلغ المركز عن المطرود ؛ كي لا يُسجن زوجها لتسترهِ علي مجرم. وعدها بشرط أن تُعَرفهُ علي ذلك المطرود الآن . وافقت وتزحزحت من جانبه في غنج ، وقفت تستر شيئًا من عُريها الكامل ومَشْت تتقصع؛ لتعود بزوجها والمطرود عبد النبي معًا، دعا السيد الجميع إلي مَجلس الأُنس، تودَّدَّ السيد إلي المطرود وحيَّاهُ بلحسة أفيون من الصنف البريمو، ثم نفحه بقرش حشيش فردهُ كاملًا فوق أحجار الجُوزة. تسلطنت دماغ المطرود واعتدل مزاجه، ناكشهُ السيد بودٍ أنه يعرف حكايته؛ فارتبك ، ولمّا أعطاه السيد الأمان، انبرى يَلعن "رزق" والمطاريد كُلهم، حكى في أسى كيف إنه أخلص لرزق طيلة السنوات الماضية، ولولّاه لقُبضَ عليه والمطاريد جميعًا منذ زمن، ولا أمكنهم بيع أو تصريف أي شئ من سرائقهم ، وأن الأنجاس أولاد الزواني بعد كل ذلك تنكروًا له جميعًا.


في ذُروة حقد عبد النبي على عشيرته أفصح له السيد بما في نيتهِ ؛ أنه سوف يحشد رجالًا لمباغتتهم بهجوم مُسَلح للقبض عليهم، حذره من عدم قدرته على فعلها. رزق منجوس ابن شياطين، إبليس بذات نفسه زني بأمهِ ، فولدته عفريتًا شقيًا يفوت في الحديد، والمطاريد مثل الذئاب النَفر منهم بمقام عشرة رجال. إزاء إصرار السيد نصحه بسرية الهجوم إذا أراد له النجاح، بالذات بدون عِلم المركز؛ لوجود جواسيس كُثر للمطاريد من بين خفراء الدرك والأونباشية، يُسَربون إلي رزق أخبار المركز أولًا بأول ، وقبل المداهمات يطلعوهم علي موعدها وخط سيرها ، ليحتاطوًا ويَعُدوًا العِدَّة ، بل وصل الحال أن كان لرزق علاقة وثيقة بحكمدار سابق للمديرية، يَمدهُ بالمال والأفيون النقي ، نظير وعده بتقليل الحملات وجعلها شكلية ، ومن ثم عدم تعقُب المسروقات حال إعادة بيعها في الأسواق.


تعهّدَ السيد للمطرود بالأمان من جهة الحكومة ، وتخليص رقبته من بندقية رزق ، وفوق ذلك كله غازل مشاعره بأن يرُّدَ محبوبته إليه ، مزوّدة بكامل مصاغها ومالها إذا تعاون معه . هاجت عواطفه لما جاءت سيرة عشيقته أسيرة الجبل؛ فأخذ يحدد للسيد مواضع تمركزهم بدقة ويدلهُ علي مخابئهم الخفية ، كشف له الأماكن التي قد يَغفلوًا فيها عن المراقبة ، ومنها يمكن تطويقهم بسهولة. قرفص علي الأرض بحماس يرسم علي التراب بأناملهِ خُطة لا تخُر المياه ؛ بدأها بطريقة الالتفاف عليهم بعد اعتلاء الهضاب الخلفية للجبل ، إذ يَسهُل تسلقها فضلاً عن استحالة تأمينها بشكل كامل أو إدراك الصاعد نحوهم ، سيتفاجئ المرابطون منهم لما ينقض عليهم من الخلف . السيد يُطَالع المطرود بعين الحذر، ويتحري صدق نواياه من تعابير وجهه، لربما يغدر به - مثل سِلو المطاريد - ويُسلمه إلي رزق لقمة طرية ، لكنه وثق فيه بعدما قرأ في عينه الزائغة لوعة العشق وأتون الانتقام ؛ قرر السيد تنفيذ خطته المتينة بحذافيرها .


.. اهتداءً بإرشادات المطرود، جهَّز السيد حَمْلة ضمت خمسين رجلاً ؛ انتقاهم من الهجّامة والعصبجية - معارفه - ذوي البأس، زودّهم ببنادق ومسدسات، وألحق بهم القادر علي حمل السلاح من أبناء عمه السعداوية ؛ حتي يُعتبر النصر- إذا تحقق - دفاعًا مشروعًا من آل سعد الله وحدهم عن النجع ولا يُوصم بأنه صراعًا بين اللصوص.


وفي الدقائق الفاصلة بين آخر الليل وطلوع الفجر؛ بدأ الهجوم: تقدّم السيد الرجال كالهجمة، مُحَزمًا بأشرطة الذخيرة، اقتحم عرين المطاريد بشجاعة نادرة ومن وراءه باقي الرجال المسلحين، أعمل فيهم المدفع الرشّاش كقتال قتلي عتيد، أردى أغلبهم جثث مُغربلة بالرصاص . سَبي رزق حيًا ومعه بعض رجالهِ؛ ليُحَاكموا، ويكونوًا أمام الحكومة - والزمن - شهداءً علي بطولته النادرة. أباح لمعاونيه أموال وعتاد المطاريد كاملة كمكافأةً لهم؛ ليختفوًا من الجبل فور الاستيلاء عليها - حسب اتفاقه معهم - كفَص ملح وذاب، خصَّ نفسه بشيخ المَنسر رزق ؛ خلّعَهُ ملابسه ، ونزل به من وراء أستار الجبل ذليلًا، ولم يَبْقَ علي مسرح البطولة سوي السيد والسعداوية.


احتل السيد مقدمة الموكب المظفّر عملاقًا يَسِّد عين الشمس، دخل النجع في زهوة الفاتحين؛ ليري الأهالي رزق الجبار عاريًا كما ولدته أمه يرتعد بذَكر كامش كالأرنب المذعور في قبضة السيد الرهيبة. السعداوية المسلحون يتراكضون حول الجثث المحملة كالشكائر فوق ظهور البغال والحمير، أمّا من بقيّ حيًّا من فلول المطاريد، شُوهِدَ مربوطًا مدحورًا يتكحرت تحت نعال آل سعد الله.


غمرت السعادة بيوت النجع ، استبشروًا خيرًا بزوال غُمَّة المطاريد ، وحلفوًا بحياة السيد ، يباركون نسل الشيخ سعد الله أجمعين . ذاع الخبر في نواحي المديرية فابتهج الأهالي ، وحاول مأمور المركز التمحُك في النصر المُبين ، وإلصاق الفضل بنفسه ، لكن السيد احتاط مُسبقًا من الورطة المحتملة ، إذ جهّز خط سير الحملة : أن يسوق رهائنه - رزق ورجاله - إلي دارهِ بدلًا من المركز واحتجازهم داخله ، أوثقهم بالحبال علي جذوع النخل ، وأباحهم للأهالي ليَشفوًا غليلهم ؛ اندفعوًا يليّسوهم بالطين وروث البهائم ، جذبوًا شواربهم المفتولة فارتخت وحلقوًا أنصافها ، بصقوًا في وجوههم ودفسوًا العِصي في أدبارهم . علي الفور؛ انتقل لدوار السيد مدير المديرية بنفسه يصحب الحكمدار ومعه ضباط البوليس ، سلمّوًا رزق ورجاله إلي النيابة بإشراف السيد ، ووقع علي محضر الضبط . حكت الجرائد أيامًا متوالية عن نهاية أسطورة مطاريد الجبل ، وبطولة شيخ الخفر محمود سعد الله ، وعن ولده العترة السيد سعد الله .



.. تزامن وهج بطولة السيد، مع زيارة مفاجأة للخديو عباس حلمي الثاني - قبل عزلهِ بعام - إلي المديرية. كان متجهًا لأسوان فوق ظهر يَختهِ "نعمة الله" في رحلة شتوية، لمتابعة عمل الخزان الجديد (خزان أسوان) بعد التعلية، انغرز رفّاس اليخت في الطمي لانخفاض منسوب النيل قبيل الفيضان ؛ فتهادي داخل زمام المديرية ، وأرساهُ الربان في رحاب السرادق الكبير الممدود مسبقًا ، احتفاءً بالمرور الكريم لأفندينا . تسابق مدير المديرية والحكمدار إلي اليخت ، متبوعين بالباشوات وكبار الأعيان . لم يهتم الخديو بهم كثيرًا ، ولا بالباشا الذي نحر ألفي خروف ، ورصّهم بطول ضفتي النيل حيث يمُر مولانا ، قدر ما اهتم بحادثة الصعيد الأشهر؛ القبض علي المطاريد . سأل كبير الياوران:

- أليست هذه بلد المطاريد؟

- ذاكرة مولانا حديدية..

لمعت عينا الخديو:

- أين الشُجعان اللذين قبضوا عليهم.. أريد مقابلتهم


جيئَ فورًا بمحمود سعد الله - شيخ الخفر- وولده السيد لأجل المقابلة السامية . دخلا مجلس "أفندينا" ليجداه أبهي رونقًا من ما يظهر في الصور: شابٌ فتيٌ بشاربهِ المسنون وطربوشه القاني الطويل ، شامخًا في بدلة التشريفة الخديوية ، محاطًا بحاشية فخيمة تتزلف له وتترقب رد فعله جلالته مع هذين الفلاحين الجلفين أرباب الزرائب ، الذين تذكرهما خديو مصر وحاكم السودان من دون بَر الصعيد كله . اكتمل المشهد المهيب بأن أشار الخديو لهما أن يتقدما ناحيته ؛ دنا الشيخ محمود سعد الله من الخديو، في ارتعادة رجل أقصي أحلامه مصافحة مأمور المركز، وانحني يقبل يد الخديو مرتعشًا حتي كاد يمَس حذاءه بجبهته . تقدم بعده السيد يُقبَّل يده ، لكن في ثقة وتماسك فطريين ، لا يستشعرهما الخديو- الفَطن - في كثير من الباشوات والحاشية المُقَربة له ، فالتفت إليه باهتمام وأطال فيه النظر، تبدّي له البأس وقوة الشكيمة المرسومين علي وجهه . قال لكبير الياوران بصوت مسموع وهو يشير لهما:

- لو كان مع والدنا الخديو المعظم توفيق باشا عشرة من أمثال هذين المُخلصين الأقوياء ما قام عرابي باشا بتمرده علينا.

أمرَّ كبير الياوران أن يصرف لهما مكافأة ألف جنيه من أموال الخاصة الخديوية ، وإعفائهما من أداء الضرائب لمدة عامين. ثم تحوَّل اليهما موجهًا كلامه للأب - باعتباره الأكبر سنًا - ملتبسًا عليه صفته ووظيفته الرسمية كشيخ لخفر النجع:

- عفارم عليك يا عمدة .. مسرور بشجاعتك وشجاعة ابنك.


كلمة أفندينا الخديوي المعظم، لا تُرد أو تُخطئ مقصدها أبدًا ، فلو قال للشيخ محمود سعد الله "باشا" لصار باشا حالًا. بلا تردُّدُّ قرّرّ الحكمدار عَزل العمدة القديم ، وأصدر قرارًا بتعين محمود سعد الله عمدةً للنجع ، والسيد ابنه شيخًا للخفر . أشار أحد الباشوات المقربين لمدير المديرية بأن ؛ يتسمي النجع علي اسم عائلة العمدة الجديد ؛ فمن المؤكد أن أفندينا في عودته من الرحلة الجنوبية سيسأل عن النجع مرة أخري ؛ فيُسَّر جلالته بمثل تلك المبادرة ناحية العمدة الشجاع ؛ فوَقّع مرسومًا استثنائيًا بتغيير اسم النجع إلي "نجع السعداوية ".


سقط العمدة المعزول مغشيًا عليه لما عَلِمَ بقرار عزله . مات قهرًا في اليوم الذي جاء فيه مندوب المديرية ، لنقل غرفة تليفون العمودية من بيته إلي بيت ابن أخته الشيخ محمود سعد الله ؛ العمدة الجديد ، الذي لم يَهنأ بمنصبه طويلًا ، ليتوفي بعد عام ويلحق بخالهِ ، فأمسك بعده العمودية "السيد" الابن القوي ، لمدة اتصلت ثلاثين عامًا انتهت بوفاتهِ.


استهّل العمدة السيد عَهده بسحق أخوال أبوه - آل العمدة القديم ؛ باعتبارهم العقبة المحتملة في طريق انفراده بالسيطرة علي النجع ، ظل يُناكفهم في لَدد عنيف ، نفي أبناء العمدة الراحل وهجَّجَّ أحفاده من النجع واحدًا تِلو الآخر، قضي علي أي أثر أو ذكري لهم : أورث نفسه أملاكهم المتروكة ، هدم بيت العمدة القديم ، أقام علي أنقاضه وابورًا للطحين وقنطرة ، أبقي علي المَندرة ليجعل منها إسطبلاً للبهائم ، وحرَّم تسمية المواليد بأسماءهم . صادق الانجليز بحِرص أيام الخديوية ، في الحرب العالمية الأولي لمّا عزلوًا الخديو عباس حلمي الثاني ؛ أدرك انفرادهم التام بالحكم ، وطد علاقته بهم - من خلال مستر هاريس - لأقصي درجة وقت المجهود الحربي ، بعدما تطوع وبني لهم الكامب في النجع . بعد ثورة سعد زغلول ، استمر في عنفوانه ؛ وحقق أقصي المأمول من العُمَد لحكومات الملك الدائمة ، لم ينجح في دائرته الانتخابية أي مرشح وفدي مطلقًا.


ثبَّت أقدامه مع السُلطة ، واستدار يبطش بالنجع بقسوة ، حكمهُ بالحديد والنار، وزّع الفقر علي الجميع ، فلم يسمح لأي نفر أن يجمع مالًا أو يملك حيازة زراعية معتبرة ، رَكَلَ جميع عائلات النجع خارج أي مسئولية حكومية مهما كانت صغيرة ، بعدما كانت توزع بينهم أنصابًا متساوية ، اتخذ - سواءً بالتعيين والوساطة - من أبناء عمه : شيخ الخفر، وشيخ البلد ، والمأذون ، ومسؤل الري ، الدفكشي (مسئول السلاح بالمركز) . لأفضلة السيد عن برهان باشا ؛ نائب الدائرة ومالك التفتيش واسع الزمام ، توسّط عنده لابن عمه أن يلحقه بالعمل عنده في التفتيش (الأبعدية) ، خاصة أنه يجيد القراءة والكتابة ؛ فعيّنهُ الباشا - إكرامًا لقدر العمدة السيد - ناظرًا علي التفتيش المملوك له بزمامه المترامي ، فدادينه التسعة آلاف الخيل ترمح فيه يومين ولا تبلغ أخرها ؛ فصار السيد - في صورة ابن عمه ناظر التقتيش - المُتحكم الفعلي في الأرض والأرزاق.


الجميع عند السعداوية مثل البشر يُخطئ ويُصيب ، إلّا العمدة السيد لا يُجانبه الصواب أبدًا ، مُحَاطًا بهالة مُقدسة ومُنَزّه عن النقد والعيب . مواقفه وتصرفاته هي أماثل الأمور، أما الزلّات الإنسانية من سقطات ونزوات ، فتُبَرر- عن قناعة كاملة - أنها لغرض سامي يصعُب فَهمه عليهم بأدمغتهم قاصرة التفكير. تحصنَّت أسطورته بعد الوفاة ؛ في مندرة العمودية الملحقة بالدوار، عُلقت عصاه علي الحائط فوقها صورته الكبيرة ، تنحني من تحتهما الرقاب إجلالًا ، احتل كرسيه منتصف ساحة الدوار كالضريح ، غرفته لم يجرؤ أن يدخلها شخص بعده ؛ فلا يدخل أي نفر غرفة العمدة بغير استئذان ، وعندما يطرق الباب لن يَرُّد عليه العمدة المدفون في قبره . ومِنْ عجائز النجع مَن لا يمُّر أمام تعريشة العنب - المهجورة الآن - بغيط العمدة ، حيث كان يجلس ساعة العصاري ، ولو مَرَّ- مضطرًا - ينزل من فوق حماره ، ويخلع مداسه ؛ لربما خرج العمدة من قبره ويراه فيُهَبب عيشته.





** رواية "نجع بريطانيا العظمى" صادرة عن الدار المصرية اللبنانية، للكاتب حسام العادلي

author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات