أصل وصورتان
السَّاعةُ دائريةٌ تشيرُ إلى الثَّانية ظهرًا والصيفُ شديدُ الالتهاب. مروحةُ السَّقف قديمةٌ غطَّى أطرافَها الصدأُ ولكنَّها رغمَ صعوبةِ المهَّمة تدور، ومع أنَّ دورانها بسرعةٍ شديدةٍ فإن وجوه الجالسين تحتها تقطر العرق. صالةُ البيت مستطيلةٌ مدهونةُ الجدرانِ بالجير الأبيض والأصفر، ويغطي أرضيتها حصيرة بلاستيكية تلونت باللونين الأزرق والأخضر، وعلى أحد أطرافها توقيعٌ باسمِ الشَّركةِ المُصَنِّعة (شركة النِّيل للبلاستيك). إلى جوارِ الضِّلعينِ الأكبرِ في الصَّالة كانت كنبتان، ثقيلتان من خشب الزَّان، لكل واحدةٍ منهما أربع أرجل قصيرة، استقرَّتْ على كلِّ واحدةٍ من الكنبتين مرتبةٌ من القطن، وتراصَّت إلى جوار بعضها البعض ثلاث وسائد من القماش والقطن.
على واحدةٍ من الكنبتين جلستُ أنا وعمتي وَرْدْ، وعلى الكنبةِ الأخرى جلس مسترخيًا أخي فهيم، حتى راح في نومٍ عميق. في منتصفِ المسافةِ تمامًا بين الكنبتين، وُضع فوق منضدةٍ من الصَّاج تلفاز (سوني) أبيض وأسود 15 بوصة، المنضدة لها ثلاثة أرجل من الحديد الصلب، وفوقها مفرش بلاستيكي مزركش بالورد الأحمر وأوراق الشجر الخضراء، استقر عليه التلفاز الذي كان يعرض فيلمًا لإسماعيل ياسين، وفوق التلفاز كانت شهادة ميلاد فهيم، أصل وصورتان. وكنا أنا وعمتي جالسيْن فوق الكنبة نحكي الحكايات، فنضحك حينًا ونبكي حينًا، بينما يقطر جبيننا العرق من شدة الحرِّ أحيانًا كثيرة. وكان صوتُ شخيرِ أخي يملأ أرجاء المكان، عاليًا يغطِّي فوقَ صوتِ السَّاعة، وصوت التلفاز، وصوت حكاياتنا... حكاياتنا التي لا تنتهي.
لم ننتبه أنا وعمتي حين ضحكنا بصوت عالٍ من منظر إسماعيل ياسين في فيلم (ابن حميدو) وهو يقول جملته المتكررة: «فتشني فتش!»، فانتفض فهيم من نومه فزعًا وجعل يلوِّح بيديه ففهمنا أنه يسأل عن سبب الضحك، فشعرنا بالأسف، رغم أنه لم يقدم سببًا وجيهًا لصوت شخيره! فأغلقنا التلفاز ولم نكمل مشاهدة الفيلم الذي كنا نشاهده ربما للمرة المئة. عاد فهيم إلى ما كان عليه وعاد مرةً أخرى صوت الشخير. عادت عمتي هي الأخرى إلى ما كانت عليه، تحكي الحكاياتِ وتقصُّ عليَّ من ذكريات الطفولة بينها وبين أبي، فعاد الضحك والبكاء.
لساعةٍ كاملة لم تمتد يدي فوق طبق الفاكهة الذي أحضرَتْه عمتي ولم أعرْهُ اهتمامًا، فأشارت لي نحو الطبق فنظرْتُ فإذا هو بطيخ. مسحت عمتي عرقي بطرف ثوبها ومدَّت يدها فأعطتني قطعةً من الطبق بعد أن نزعت بذورها بيدها وقالت: «كُلْ، يا نورَ العَين، كُلْ!». ضحكْتُ بلا صوت، كي لا أوقظ فهيمًا، وقلت هامسًا: «أنا يا عمتي لا أحبُّ البطيخ.. لا أحبُّ البطيخ!»، فأعادتها إلى الطبق وعادت تحكي عن أبي الحكايات:
- كان يحبُّها حبًّا جمًّا!
قاطعتها في حيرة:
- لكنِّي سمعت حكايات أخرى لا يشبهها شيءٌ مما أسمعه الآن.
عادت في صدقٍ تلمع منه عيناها:
- لا تصدق ما قيل لك، فعند عمتك كلُّ أسرار أبيك.
وكأنَّه سمعنا، جاءنا نداؤه من غرفته، كان الصوت مكتومًا من أثرِ الوَجع الذي يعاني منه منذ سنين، فاندفعتُ إلى غُرفته في لهفةٍ دون انتظار، وفتحتُ البابَ على آخره، وتحسست مصدرَ الإضاءةِ في الغرفة المظلمةِ فأضأتها. رأيته غارقًا في عَرَقِه كأنَّما يصَّعدُ في السماء، أو كأن جبينه صار سحابةً تمطر عرقًا بلا توقف، رغم دوران المروحة. سألته إن كان يريد أن أفتح له النافذة فلم يرد، ففتحتها واعتبرت سكوته موافقة، ووقفت في مكاني تحت النافذة لصق جدارٍ أنتظر.
كانت أصابع يديه تقاوم في بسالةٍ الرعشة الملعونة، كما تقاتل روحُهُ الطيبةُ مرضَه الخبيث. وكان يلتقط أنفاسه واحدًا تلو الآخَر في صعوبةٍ بالغة، كأنما خيط منخراه. كان صوت أنفاسه أعلى من صوت طائرة نفَّاثة رأيتها من النافذة المفتوحة تحلق فوقنا وتترك وراءها خطين متوازيين من الدخان الأبيض. وكانت اهتزازة رأسه متتابعة كاهتزازة رأس العصفور الذي استقر فوق غصنٍ أطلَّ هو الآخر من النافذة فرأيناه غير بعيد.
ولمَّا تأكد من وجودي في غرفته، صعَّد نظره في سماء الغرفةِ وثبَّتَ عينيه على مكان فيها لدقيقة، وعاد ينظر بعينين ضيقتين نحوي، ويقول في رجاء، بشفتين منطبقتين لا يفتحهما إلا السُّعال الشديد، وبصوتٍ بالكاد أميزه:
- وحيد، اقطف لي عنبًا من هذا.
لا أعرف إن كان يحب العنب أو لا يحبه، وعمتي لم تحدثني بشيءٍ عن العنب، لكنها حتمًا أخبرتني عن العقاب الغليظ الذي جعله يشعر بالنَّدم طيلة حياتهِ، ولم تخبرني عن الذنب وإن أخبرتني عنه أمي!
نظرْتُ إلى سقف الغرفة موضع نظره، فلم أجد أيَ صورةٍ أو أثرًا للعنب. لم يكن بالسقف العالي إلا مصباحٌ أطفأْتُه بعد أن فتحت النافذة، ومروحةٌ قديمةٌ لا تختلف كثيرًا عن مروحة الصالة في عدم جدواها! فسألته عما إذا كان بالفعل يشتهي العنب لأحضره له، لكنه التفت عن يمينه مولِّيًا وجهه شطر الجدار، كأنما يُلبي نداءً لم يسمعْهُ سواه، وقال:
- ما أجملَ صوتَ ذلك العصفور!
لم يكن للعصفور صوت، لم يكن إلا حركة رأسه الصغير في صمت، ثم عاد وأشار نحوي بالسبابة والوسطى، يُبعِّدُ بينهما ويقارب في حركة متكررة، وقال مبتسمًا في راحةٍ واطمئنان:
- رُمَّانة واحدة، واحدة فقط ستكفي.. لأنِّي أحبُّه.
تساءلت في حيرة:
- رمانة واحدة... لماذا إصبعان؟!
ثم أنزل عينيه وثبَّتَهما موضع أقدامي من دونِ سببٍ معلوم، وقال بصوتٍ متقطِّعٍ وهو يمسح بكفه فوق فراشه:
- لتجلس قليلًا إلى جواري قبل أن أرحل!
- أطال الله عمرك يا أبي!
فعاد يتساءل في قلقٍ:
- وتجلس دقيقتين إلى جواري؟
فأجبته على الفور:
- بل أبدَ الدهر يا أبي.
- لم يعد في الدهر بقية.
- ذلك في علم الله...
- قد يُطلعُ اللهُ بعضَ عباده على شيءٍ من علمه.
- أأطلعك الله على شيء؟
- رأيته رأى العين؛ قريبًا كهذا العصفور، بعيدًا كتلك الطائرة.
- ماذا رأيت؟
- الرُّمان.. مُدَّ يدك يا وحيد واقطف لي ثمرةَ رمان.. دعك من البطيخ.. أنا لا أحب البطيخ!
ولم أفعل أي شيءٍ غير ثباتي في مكاني واجمًا أمام أشياء لا أراها، وأصواتٍ لا أسمعها، وحوادث لا يمكن إلا أن تكون من نسج خيالِ المريض. ومرَّت لحظاتٌ وهو على حاله لا يتكلم، وأنا على حالي لا أتحرك، ولكنه لمْ يكفّْ عن الإشارة والالتفات. لم أنبس بكلمةٍ واحدةٍ أو سؤال، إلا ما قلتُه في داخلي من أحاديث الحيارى والمجانين:
- ليس في الغرفة من حبةِ عنبٍ واحدةٍ ولا ثمرة رمان. ما ذلك الذي يقول أبي؟! جِنَّةٌ أصابته أم جَنةً أصابها؟ دنا أجلُه فاحتدَّ بصرُه وصار يرى ما لا نراه، أَمْ أنَّهُ مصابٌ بالمرض الذي لا يميِّزُ المرءُ معَه بين ما يحبُّ وما يكره؟
يصيح فجأة:
- أستغفر الله العظيم من الذنب العظيم.. لم أفلح في تربيتك!
أداعبه:
- ربما لم تفلح إلا في تربيتي!
يقطع السعال بضحكةٍ ويقول:
- تعال إلى جواري.
أقترب منه في ترددٍ وحيرة، ولا أملك إلا أن ألبِّي رغبته في الجلوس إلى جواره. ريقي مرٌّ كالصبارِ، وجسدي يقشعرُّ كأنما يسري في العروق تيار كهرباء كالذي يسري في المصباح المعلق ومروحة السقف القديمة. لم أبالِ بالمسافة التي كانت بيننا، فاقتربْتُ منه لحدٍّ لم يعد عليَّ عنده من ملامةٍ في البعد أو حرجٍ في القرب. ومسحت عنه في همةٍ عرقَ جبينه، كما فعلَتْ عمتي بعرق جبيني قبل قليل، فابتلَّتْ كفِّي بقدرِ ما جفَّت وجنتاه وجبينُه، وجعلْتُ أمسحُ في ثيابي ما ظفرَتْ به من عرَقٍ يداي، كأنَّه وديعةٌ غاليةٌ أُودِعْتُها أو مسحةٌ من عطرٍ محببٍ إليَّ. وكنت إلى جواره؛ يميني تمسح على شعرهِ، وشمالي قابضةٌ على شماله، حتى أغمض عينيه، رغم حركة رموشه المضطربة وحاجبيه. هممت بالانصراف، لكنَّه فتح عينيه على اتساعهما، حتى مسَّ حاجباه أطراف شعره، ذلك الذي خلط الشيبُ سوادَهُ كما يختلط عند الفجر ووقت المغيب الليلُ والنهار، وقال هامسًا:
- لا تغفل عن الغنم، ولو للحظةٍ واحدة، لئلا يأكلَها الذئب.
- أي ذئب؟
لم يَرُدّ.
- أي غنم؟
لم يَرُدّ.
ماذا يقول أبي؟ هل احتدَّ بصرُه فصار يرى ما لا يراه الآخرون؟ هل يوصي وصيةَ الراحلين بلا عودة؟ خانتني دمعة لم أشعر بها إلا بعد أن سقَطَتْ فوق جبينه وراحت تتقلب في كل اتجاه، فابتلَّ جبينه مرةً أخرى كما كان، واستردَّ وديعتَه التي أودعني إياها قبل قليل. وجذبني نحوه قليلًا حتى طالت يمينه عيني الباكية، فمسح بإبهامه ما بداخلها، وقال:
- لا حول ولا قوة إلا بالله... لا حول ولا قوة إلا بالله!
ونزع يده من يدي وأشار بها نحو المصباح وأمرني بإطفائه، ولَوَّح لي مرةً أخرى وأشار نحو الباب وأمرني بغلقه والانصراف. هممتُ بالانصراف ولكن قبل أن أنصرف، شدَّ فوق رأسه غطاءه الأبيض، ومدَّ رجليه على طولهما، والتفتَ وأعطاني ظهره.. أعطاني ظهره وكأنَّه لا يعلم أنني أحتاج إليه الآن أكثر مِن أي وقت مضى.. ومضى عائدًا إلى حيث كان.
نفَّذْتُ وصيَّته وخرجت من غرفته إلى حيث كنت، على الكنبة إلى جوار عمتي وطبق البطيخ، تائهًا بين دروب الضحك والدموع.
وفي مساء اليوم التالي، اتَّصَلَت بي زوجة أبي لتطمئنني على صحته، بعد أن عُدْتُ إلى مكان عملي في فندق (الميريديان) بحي الحسين بمدينة القاهرة، وقالت:
- لقد كان أبوك على عتبات الموت ليلة أمس، لكنْ تحسَّنَتْ صحتُّه بطريقة لا تُصدَّقُ وهو الآن نائم.
وكان إلى جوارها عمتي ورد، سمعتها وهي تناديني في لهفة:
- أشتاق إليك يا وحيد!
فقالت زوجة أبي متعجِّبةً:
- لم يغب عن البيت إلا بضع ساعات...
فقالت عمتي التي لم تذهب يومًا لمدرسةٍ ولم تقرأ كتابًا واحدًا:
- حاشا لله أن يغيب عن البالِ، وإن غاب عن العين.
وعادت تغيظها:
- يغيب الحاضرون ببالنا، ويحضر مَن ليتهم غابوا!
فضحِكْتُ مما قالت، ومن صمت زوجة أبي لجهلها بمراد عمتي. ولمَّا انتهى عراك المحبة بينهما، أعطَتْ زوجةُ أبي هاتفَها لعمَّتي ومضت نحو المطبخ لتعدَّ الطعام. وراحت عمَّتي تحدِّثُني بكلِّ ما وقع من أبي منذ أن غادرْتُ البيت، وكان مما قالته:
- بعد أن سلَّمْتَ علينا ليلة أمس وسافرت إلى القاهرة، اصفرَّ وجهُه وبردت أطرافه وساءت حالتُه؛ كما لو أنه على موعدٍ مؤكدٍ مع الموت، ولكنِّي صرخت فيه بقوةٍ، وجعلت أهزُّ أركانه بيدي:
- لا والله، لا يمكن أن تتركنا الآن!
حتى عاد إلينا سالمًا، ولما أفاق من غفلته عاتبني قائلًا:
- لماذا الصراخ في وجه الملائكة يا ورد؟! لماذا أعدتِّني إلى هنا مرةً ثانية؟!
وجعلَتْ عمتي تحكي الحكايات التي لا تُملّ، حتى اختفى وتبدد مع ما تبقى من نور النهار صوتُها، فعلمْتُ أنَّ رصيد الهاتف قد انتهى. ولم يكن هناك من فائدةٍ أخرى للاتصال بها فقد اطمأننت كثيرًا على صحة أبي، كما أنني كنت على موعدٍ مهم. ولم تمض إلا ساعةٌ حين وصلتني رسالة:
- أبوك تعبان، احضر حالًا!
اعتذرْتُ لمديري وللفوج السياحي الذي كنت أرافق أفراده في جولة في أحياء القاهرة القديمة، وأخذتُ القطار العائد إلى حيث تعيش أسرتي في مدينة المنصورة. ولم أنتبه إلى أنني ركبت القطار الخطأ إلَّا حين وجدتني أمام لافتة كبيرة مكتوبٌ عليها (محطة الجيزة). فنزلت على عجلٍ من القطار الخطأ يرجف فؤادي، أبحث متلهفًا عن القطار الصواب، وأدعو الله وأرجوه أن يحملني إلى أهلي بسرعة، وأن ينزل علينا السكينة والرضا، وأن يحلّ علينا لطفه في قضائه الذي قضى.
كان قطار الجيزة اختيارًا خاطئًا وقع دون اختيارٍ منِّي، وعلى حينِ غفلةٍ من عقلي. مَرَّ الوقت ولا أدري كيف مَرّ، وحين وصلْت الشارع الذي نسكن فيه، وقد كان الظلام يضمُّ البلدة كلها في قبضته، وجدته ممتلئًا بالصغار والكبار والنساء على اختلاف أشكالهم وألوانهم والطريقة التي عبروا بها في صمتٍ عن شعورٍ واحد، بدا لي في البداية مربكًا ومحيرًا. شعرت بالتيه للحظات، فجعلت أنظر، كما ينظر طفلٌ تائهٌ نحو البيوت من أعلى، محاولًا التأكد إن كنت في المكان الصواب أو أنَّ قدمي حملتني مرةً أخرى إلى المكان الخطأ. مَن هؤلاء؟ ما سر الحزن المنحوت بإتقان على وجوه رجالهم المصفرة وثياب نسائهم السود؟ ما سر اتفاقهم جميعًا على شعورٍ واحدٍ وهم لم يتفقوا على شيء واحدٍ منذ عرفتهم؟! دغدغتني الحيرةُ في غير رحمةٍ، وابتلعني التيه دون مقاومة، حتى تلقفتني من الخلف لمسةٌ حانية، التفتُّ إلى مصدرها، فإذا هي عمتي، توأم أبي ورفيقة يُتمِهِ، فهمست لها:
- مَن هؤلاء؟ ومَا سر الصمت والحزن؟ هل مات أبي؟
لم تتكلم.. ارتسم خطان من الدموع على وجنتيها وثوبها فجأةً كأنما خرَّا من السماء، ولكنها لم تتكلم
فأعدْتُّ السؤال:
- هل مات أبي؟
لم ترد!
صار سخيفًا أن أسال عن جواب أعرفه، فسألت عمَّا أجهل:
- كيف تركْتِهِ يا عمّتي يموت؟!
لم تُجِبْ إلا بالدموع.. أنا أيضًا لم أسأل إلا بالدموع.. كانت الدموع لغةً اتَّفقْنا عليها بيننا، كما اتفق أهل شارعنا على الحزن والصمت. وكانت عمتي أقل صبرًا من أبي الذي اعتاد أن يجيب عن أسئلتي دون مقاطعةٍ أو شعور منه بالضجر، فلم تدع لي فرصةً لمزيدٍ من الأسئلةِ، ولم تتركْ لي حيِّزًا لمزيدٍ من الأسى أو اللوم. ضمَّتني إلى صدرها وأحاطتني بذراعيها، وأسنَدَتْ رأسَها على كتفي فأسنَدْتُ رأسي عليها، ثم ذبنَا معًا لوقتٍ لم أحسب له حسابا، كأننا لا ننتمي إلى زمانٍ أو مكان، وجعلت أستبدل بكلِّ لحظةِ بُعدٍ عن أبي قُربًا من صورته. هل مات أبي؟ هل ضاع الأصل؟ مهما يكن، فإنَّ في بقاء الصور، أحيانًا، ما يخفف من لوعةِ ضياع الأصل. وكانت عمتي صورةً تطابق الأصل قلبًا وقالبًا؛ الوجه القمري المضيء وجهه، الجسد النحيل جسده، حتى الصوت صوته، وعبير الورد عطرها وعطره، قرينه من البشر وبئر أسراره، هي إن شئت قل صورته الأنثوية!
جعلت أتفحَّصُ وجوهَ الرِّجال العابسةِ متسائلًا في يأسٍ عن سبب الحزن المصحوب بالصمت المنحوت فوق جبينهم رغم معرفتي للجواب. ورحت على استحياءٍ أفتِّش في ثياب النساء السود وصرخاتهم التي تعالت بمجرد أن رأوني رغم معرفتي التامة بالعلة. ولما تأكد لي ما كنت أحس به وأنا أمام جبينه المتعرق وأصابعه المرتعشة، انهارت قواي، وكدت أسقط فوق الأرض، لولا عمتي.
ورغم علمي أنَّ لقاءنا بات مستحيلا، وأنَّ عودته إلينا صارت تشبه عودة قطرات المطرِ إلى جوف السماء بعد سقوطها في باطن الأرض، وأنَّ أمنيتي برؤيته أشبهَ بعودةِ عجوزٍ شمطاءَ إلى سنوات الإغراء، وأنَّ رغبتي الشديدة في اللقاء به مرةً أخرى هباء؛ آلمني أننا افترقنا، وآلمني أكثر أنَّه لمَّا نوى الرحيل لمْ يخبرني بنيَّته، ولم أره كي أُلوِّحَ له بالسَّلام ولو من بعيد: «أراك قريبًا يا أبي»، أو «إلى لقاء!».
أهل القرى يعدُّون الموت عيبًا، قبل أنْ يعدونه مصيبة. من أجل ذلك جعلت أبحث عن مكانٍ أتوارى فيه من الناس، وحدي ومصيبتي، لئلا يروني ضعيفًا... لئلا يعدوني معيبًا.
مسَّني عبيرُها وقتَ طوَّقتني بذراعيها فاشتممت عبيرَه، وضمَّتني مرةً أخرى وهي تضمني، كأنها تستعيض عن صدره بصدري، وكأنها هي الأخرى تبحث عن مكانٍ أبحث عنهُ، وقد وجدَتْ ذلك المكان وقت وجدَتْني. وقالت وهي تمسح بكفها دموعنا، تخدع نفسها، وتحاول أن تغيظ الموت:
- خسارتنا كبيرة، ولكن أنت صورةٌ منه...
لم تقل، بكت، ففسَّرْتُ حشرجةَ صدرِها وصوتَ بكائها على ذلك النحو. كم من مرةٍ قالت لي ذلك وأنا أختبئ منه في غرفتها خوفًا من عقابه! قبل أن تناديه بصوت الخيانة البريئة: «وجَدْتُّ مَن تبحثُ عنه». فهل وَجَدَتْ هي الآن بعناقي ما كانت تبحث عنه؟ هي الشاهد على تكرار صورته فيَّ، وأنا الشاهد على قرار حبِّه لها. كان يقول عنها: «أدين لها بما يدين به كلُّ طفلٍ لأُمِّه»، ويشير نحو عنقه ويكمل: «لقد زهدت دنياها وأزهرت دنيانا.. واختارت أن تهبنا حياتها دون أن تنظر إلى نفسها أو تنتظر المقابل.. وها هي الآن قد جاوَزَتْ الستّين من عمرها ولا زوج لها ولا ولد».
رحل أبي تاركاً صورةً فوق جدار البيت، وشرخًا في جدار القلب، وحكمةً على جدار الذاكرة لا يمحوها الزمان. وكان عناقها ذلك المكان الذي أبحث عنه فسكنْتُه، وجعلتُ أشمُّ رائحةَ الرَّاحل في كل رُكنٍ من أركانه، حتى لكأنني رأيته من جديد؛ كأنَّه ما زال قائمًا فيه لم يرحل، وكأنَّه ما زال حيًّا فينا لم يمت!
يمكنك أيضا الاستماع إلى القصة بصوت الإذاعية هايدي عبد الرحمن من خلال الفيديو التالي
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب