القائمة الرئيسية

الصفحات

السندباد الأعمى.. محاولات لوقف الألم تبوء كلها بالفشل!

 


عبد الرحمن السيد


لماذا هذا اللحن الشجىّ يفرض نفسه بقوة فى أدب الكويت؟ ولماذا لا يسعنا حينما نقرأ أدب كهذا سوى أن نُحبه ويأخذ مكانةً خاصة فى قلوبنا!


ألمٌ ما يجب أن يتوقف، نزيف داخلىّ مُضنىّ، هذا ما تشعر به من أول الحكاية، بداية خادعة، كبدايات فى حياة واقعية، تجدها في رواية "السندباد الأعمى"، للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، التي تجرّك بسلاسة ثم ترميك مباشرة نحو وجع يتفاقم بشكل مفاجىء! وجع يدمي القلوب والأوطان على حدٍ سواء.. هل الألم ما يصنع المأساة، أم محاولات التخلص منه؟!


هنا، استخدمت الكاتبة الواقع لصنع مجازًا قاسيًا، كل شيء كتب كما يحدث فى الحياة، مزيج جميل ومربك فى آن واحد، عملٌ متخم بالمشاعر رتبتها الكاتبة ببراعة مذهلة. 


في البداية تحتشد الأحداث بغزارة وتتحرك سريعًا، وهذا أكثر ما يميز هذا النص؛ كل شىء ينقلب رأسًا على عقب بسرعة، دون مقدمات، تلهث مع النص، وتنهيه فى يوم واحد! 


تبدأ الحكاية بمشهد فتح السجون مع بداية احتلال العراق للكويت، ويخرج نوّاف من السجن، فنعرف اول ما نعرف أنه تائهًا، ونعرف أنه محمل بذكريات مؤلمة، ونعرف أن لوثة ما أصابت سكون عقله! لكننا لا نعرف ما الذى حدث وقاده نحو السجن!


ولذلك تعود الكاتبة للوراء، حيث كل شيء في مكانه لازال، الأسماك فى البحر أو فى المقلاة، والبشر على اليابسة، أي ما قبل الاحتلال. تحكي لنا بثينة قصة اعتيادية بشكل غير عادي، وبلغة ساحرة، أصيلة، متخمة، ودسمة، عن الحب والألم، عن الفواصل الإجتماعية القاسية، عن الخطيئة والعار وعن الحرب! ونادرًا ما تجد عملا زاخرًا بكل هذا دون أى اختلالٍ او ملل، بل متماسك ومحافظ على جريان الأحداث بوتيرة متصاعدة وسريعة.


نادية، فتاة جميلة تُحب زميلها فى الكلية عامر، الذى يبادلها نفس المشاعر وبجنون! عامر شيعة ونادية سُنّة، انتهت قصة الحب قبل أن تبدأ، بفجاجة تنتهى، والحب الذى يُدفع مرغمًا نحو الهاوية لا يسقط وإن سقط، أبدًا لا يموت!


نرشح لك: بث لايف.. مناقشة "السندباد الأعمى" للكاتبة بثينة العيسى


تتزوج نادية من صديق عامر المقرب نوّاف وتنجب منه مناير! تظن أن كل شىء انتهى، لكن لماذا لا تشعر أنها على قيد الحياة! 

هناك زجاج يحيط بالمرغمين على التعايش بشكل عادى حيث لا شىء عادىّ، يمنعهم من التنفس والعيش والاختلاط مع الآخرين! وفى نفس الوقت لا يظهر أن هناك خطب ما! هكذا كانت نادية تعيش وزجاج سميك يغلف روحها من كل اتجاه!


وياله من ألم حينما يكون حبك الحقيقى أمامك طوال الوقت! وماذا عن فرصة ثانية تعوض ما فات؟ أم أن الفرص الثانية محض خيال وكلام شاعرىّ بعيدا عن الواقع وبالتالى بعيدا عن نص رسم الواقع بقسوته كما هو، ربما يجيب النص على هذا السؤال.


تتوالى الأحداث، وسط حرب وحب وخطيئة، والبحث عن برٍ ما، أو عن نهاية ما! ربما تكون القصة اعتيادية أو أقل، ثيمة مشهورة عن حب مستحيل وحياة تستحيل دون هذا الحب، ووقوع فى وحل خطيئة ربما لم تحدث! لكن المعالجة صنعت فارقًا، نص مكتوب بحرفية ومزاج! ينتزع منك راحتك، يقلب فى عقلك عددًا ضخما من التساؤلات، ولا يجيب إلا عن قليل القليل، نص مراوغ، يستعرض قضايا هامة وشائكة... يترك لك حرية الإعتقاد فى لجج من الإحتمالات المتروكة للقارئ، خصوصًا عند المشاهد المفصلية والحاسمة نجدها تغوص فى ضباب كثيف فيترك لك مساحة لأن تفترض! ستتفاجأ مرارٍا وتندهش! تكتشف مستويات جديدة فى تلك الثيمة، تغوص فى الحياة الإجتماعية الكويتية فى تلك الفترة، يقودك النص للغضب بشكل غير مباشر على العادات العمياء، على زمنٍ كانت المرأة فيه تحمل كل الذنوب وحدها! 


ترى ضريبة ثقيلة تدفعها طفلة فقط لأن الحب كان له رأى آخر فى علاقة والديها! تغضب على الطغاة وما يفعلوه سواء كانوا قادة أم أناس عاديين يصدرون الأحكام على غيرهم! السياسة كانت حاضرة غائبة فى نفس الوقت، تلعب دورا كبيرا دون حضور ثقيل الظل، مشاهد الحرب قاسية تعكس ما يدور من داخل البيت الكويتى؛ خوف وذعر امتدت جذوره فى البشر وتداخل مع تكوينهم فيما بعد.

 

اللغة مميزة بحق، تقودك إلى المعاجم فى بعض الأحيان، دون تقعر أو فجاجة، أن تستخدم لغة دسمة دون أن تفقد اللحن هذا هو الإبداع بعينه، الحوار جاء قليلا وباللهجة الخليجية القوية كالبهار، المؤثرة، صاحبة لحن خفى تحب أن تقرأه، فمثلا انت لا تملك سوى أن تقع فى حب اللهجة حينما تقرأ كلمة "يُمّه" وتستعيد وقعها مرارًا وتجرب نطقها! جميل هو الأدب يقرب الناس ببعضهم، يذيب الفوارق ويمحو الكراهية ويعبث بالجغرافيا فلا يقيم وزنا للأمكنة والأزمنة.


برعت الكاتبة في رسم الشخصيات، بدقة ووضوح اتاحت لها التنقل عبر السنين واستعراض مستقبل الشخصيات واثر الاحداث على الأبطال بعد ثلاثين سنة! مسيطرة تماما على ظهور واختفاء كل شخصية، حتى انك ستشعر انها قصة حقيقية حدثت بالفعل من فرط التفاصيل. 


أما منتهى البراعة وجدت فى القفز داخل النفس المعذبة، ظهر جليًا فى شخصية مناير! الطفلة الذى تجد نفسها وسط هولٍ لا تعيه، وكل ما تفهمه انها لا تجد امها وأباها، غير مرئية بالمرة وسط عائلة مفككة لا تقدم لها سوى البؤس والتساؤل، مناير التى كُتبت بحرفية، وغاصت بثينة فى تفاصيلها وتخيلاتها وآمالها وآلامها، تتبعت حياتها من الإحتلال حتى عزلة كرونا، ثلاثون عامًا!


فتصف الكاتبة مناير بعد ثلاثين سنة من بداية الرواية: 

"ومع ذلك لم تشعر بالحزن. بالشيء الذي يسمونه الحزن، لأنها لا تعرفه، فإحساس مثل هذا هو امتياز الذين يعرفون الحب. أما هي فقد كانت مثل قوقعة فارغة؛ وقد تم حشوها بالهراء طوال حياتها"

 

وهنا اتسائل، هل يمكن من يكبر وسط عائلة لا تراه أن يكون مرئيًا فيما بعد حتى وإن رآه كل الناس؟ أم أن الأمر يصبح مجرد رد فعل عنيف، ها أنا موجود! لكن أبدًا لا يكون شعور بالوجود فعلا والتحقق! 


"ليس ثمة نهاية، لا شيء ينتهي حقًا.. اللعنة، لا شيء ينتهي"

 


هكذا أنهت بثينة العيسى روايتها الجميلة، الغاضبة، والتى تصعب أن تُحدد إن كانت رواية حرب ام رواية تاريخية ام رومانسية ام رواية أجيال... لكنها بالطبع رواية عن حياة كاملة تتداخل فيها كل الألوان، كل الآلام، ولا شىء يبدو فيها واضحًا قطعًا مثلما الحياة. 


author-img
أنا إسلام وهبان، مؤسس مدونة "مكتبة وهبان" وقد أطلقتها لمحاولة استعادة دور المدونات الثقافية في نشر الوعي والتشجيع على القراءة ومتابعة كل ما يخص المشهد الثقافي والأدبي ومشاركة القراء اهتماماتهم وخبراتهم القرائية

تعليقات