أحمد دوالي
- لماذا لم يكره الغيطاني عبد الناصر حتى بعد تعرضه للاعتقال والإهانة من جانب الأمن؟
- ماذا فعل حين رأى الطائرة الإسرائيلية فوق رأسه في الجمالية؟!
- لماذا قرر العمل كمراسل حربي؟
وضعت الحرب أوزارها، بعد سنوات من القتل والدمار وموت الملايين، انتهت الحرب العالمية، وتغيرت صورة العالم، عصرًا جديدًا يبدأ، يختلف كل الاختلاف عما قبله.
وقعت ألمانيا وثيقة استسلامها في ٨ مايو ١٩٤٥ ومع فجر الأربعاء ٩ مايو وفي أول أيام السلام العالمي ولد جمال الغيطاني.. مفارقة عجيبة، فالرجل الذي ولد في أول أيام السلام العالمي، قضى حياة مليئة بالحروب.
يقول الغطياني عن مولده: "ولدت بعد استسلام ألمانيا بساعة واحدة"، ورغم انتماء عائلة الغيطاني إلى صعيد مصر وتحديدًا في جهينة بمحافظة سوهاج حيث ولدته أمه ولكنه كان ابن القاهرة، المدينة العتيقة العريقة التي تتجاور فيها الأزمنة المصرية ولا تتوالى بحسب تعبير الغيطاني.
مساحة إعلانية |
من بيته فى حارة درب الطبلاوي كان يرى التاريخ شاخصًا أمامه، الأزمنة تتوالى، إلى الغرب كان ينظر فيرى الأهرامات بوضوح شديد وفي الجنوب أبراج الكنائس في الفسطاط وفي الغرب كان جبل المقطم المهيب يقف أمامه متحديًا الزمان والتاريخ، بالقرب من منزله عرف قصر المسافر خانة الذي كان يومًا ما واحدًا من أعظم القصور التي عرفها العالم، بأسواره العالية، والذي شهد مولد الخديوي إسماعيل، كان القصر يشعل الخيال فى عقل الطفل الذي أراد أن يعرف ما وراء تلك الأسوار ومن سكن ذلك البيت فيما مضى.
صورة نادرة للغيطاني في طفولته |
كان أبيه يحرص على شراء جريدة المصري ومن خلالها عرف الحروف وعشق الكلمات حتى قبل أن يلتحق بالدراسة. مدين للجمالية بثقافته وقراءته المتعددة، فقد عرف باعة الكتب في الأزهر صغيرًا، كان يقرأ كثيرًا بنهم لا يعرف التوقف، يطرح الأسئلة على نفسه كلما قرأ أكثر ولكن السؤال الأهم ظل يتردد بداخله. شغل الغيطاني سؤال.. أين ذهب الأمس؟ دفعه السؤال لقراءة التاريخ ومعرفته حق المعرفه.
كان تأثير المكان عظيمًا في حياة الغيطاني، فقد جعله معجونًا بالمصرية، هذا بلد يطبع أثره على وجوه أبنائه، يجري في دمائهم وهكذا كان الغيطاني، رجلا شديد الوطنية، شديد الانحياز للبسطاء الذين نشأ بينهم، شديد الإحساس بالمسئولية أيضًا تجاه أهله ومحيطه.
التحق الغيطاني بالثانوية الصناعية حتى يستطيع إنهاء دراسته سريعًا، ويساعد والده فى تحمل أعباء الحياة، درس صناعة السجاد و تصميمه وصباغته، تلك صناعة دقيقة تحتاج إلى فنان لا مجرد عامل، وقد كان الغيطاني حقًا موهوبًا ولكن القدر أراد له أن يصمم الكلمات ويصبغ المعاني لا السجاد.
نأتي إلى تأثير ثورة يوليو ١٩٥٢ على الغيطاني، ولكن في البداية هناك مشهدين قبل ثورة يوليو كان لهما عظيم الأثر في نفس الطفل، المشهد الأول فى إحدى شهور عام ١٩٤٨ وأثناء اجتياح عصابات الصهيونية أرض فلسطين الحبيبة مرت غاره واحدة فوق سماء القاهرة يتذكرها الغيطاني جيدًا حيث نزل مع أهله إلى الطابق السفلي من المنزل خوفًا من الغارة، ذلك أول مشهد يتذكره عن القاهرة وظل مطبوعًا فى ذهنه بقية عمره.
في سن طفولته كان يعرف أحد جيرانه الذين شاركوا في حرب فلسطين، يتذكر كيف كان يسمع عبد الوهاب يغني "جاوز الظالمون المدي". نشأ بداخله وعيًا وطنيًا و عروبيًا حتى قبل أن يقرأ أو يعرف شيئًا، ربما لم يكن يفهم ما يدور حوله ولكنه رأى القلق والخوف في وجوه الناس، رأى تضامن الناس مع بعضهم البعض، خوفهم على حياتهم وحياة ذويهم، وكان ذلك أول ما طبع فى عقل الطفل عن القاهرة.
مرت أربع سنوات حتى كان المشهد الثاني، حريق القاهرة، يتذكره الغيطاني جيدًا، كان يقف فوق سطح بيته وقد رأى القاهرة كلها تحترق أمامه، كان مشهدًا مهيبًا ينذر بكارثة ونهاية عصر بأكمله، كان الحريق بداية أفول الملكية بلا شك، لا نعرف حتى الآن من الذي تسبب فى ذلك ولكن بكل تاكيد كان حريق القاهرة نذير النهاية التي أتت بعد ذلك بسته أشهر فقط.
كان فى السابعة من عمره ولم يكن يعي الكثير حين قامت الثورة، ولكنه يتذكر سعادة أبيه بما جرى، كبر الغيطاني وأزداد حبًا لعبد الناصر، نصير الفقراء، حبيب الملايين الذي تعلق به المصريون كما لم يتعلقوا بأحد من قبله.
كبر الغطياني وعرف أكثر، كان هناك حين خطب عبد الناصر في الأزهر عام ١٩٥٦ إبان العدوان الثلاثي، أشهر خطب عبد الناصر فى تاريخة، إعلان الجهاد من الأزهر تقليد مصري قديم وقد كان الغيطاني فى ذلك اليوم جالسًا إلى جوار أبيه في الصفوف الأمامية.
"كان بيني وبين عبد الناصر ٣ متر".. هكذا يروي الغيطاني ذلك المشهد المؤثر فى حياته وحياة مصر كلها بلا شك.
يعتقد أن سعد زغلول أهم زعماء مصر، و يرى فى عبد الناصر استثناء في التاريخ المصري، لا يكتمل العيد إلا برؤية عبد الناصر بعد الصلاة حين يخرج في سيارته المكشوفة، يلغي من يقف إلى جواره فلا يتذكر الغيطاني إنه كان يرى إلا عبد الناصر.
ولكن التأييد لا ينفي الاختلاف والاختلاف لا يعني الخلاف، هكذا كانت علاقة الغيطاني بثورة يوليو التي آمن بأنها تحقق الكثير للفقراء ولكنه اختلف مع التطبيق الإشتراكي الذي تبناه عبد الناصر، كان الغيطاني مؤمنًا بالشيوعية الصينية، "الماوية" كما يطلق عليها، إيمان الغيطاني بالماوية دفعه إلى السجن فى ١٩٦٦ بتهمة الانضمام إلى تنظيم سري، من سجن القلعة الرهيب سيء السمعة إلى طره قضى الغيطاني ستة أشهر كانت صعبة وقاسية، ليس هناك ما هو أقسى على الإنسان من إهانة النفس، الألم البدني يمكن احتماله ويمكن غفرانه أما الألم النفسي فلا يعرف التلاشي، سيبقى ملازمًا لصاحبه، ندوب على جدران الروح لا تندمل ولا تختفي آثارها.
لم ينسى الغيطاني ذلك الضابط الذي سب أمه، أصوله الصعيديه جعلته لا ينسى الإساءة ولا يغفرها حتى أنه كان يرسل لهذا الضابط مع بعض معارفه نفس السباب الذي وجهه لأمه يومًا ما، ذكر هذا الضابط بالاسم فى كتاب "التجليات" وتحدث عما مر به فى شهور اعتقاله.
ولكن بالرغم من ذلك كان الغيطاني واحدًا من أكثر المؤمنين بعبد الناصر وتجربتة وظل يدافع عنها كثيرًا حين ارتفعت الأقلام كالسيوف تنال من الرجل و تجربتة بعد أن صعد إلى رحاب ربه.
لقد تعرضت القوى الشيوعية واليسارية في ذلك الوقت حيث عهد السادات إلى الكثير من العنف و القسوة والسجن والتنكيل. الإخوان وجماعات الإسلام السياسي تعرضوا لذلك أيضًا.
المفارقة التي تحتاج إلى الكثير من التأمل والدراسة هي جنوح الإسلاميين للإرهاب والعنف كرد فعل على تلك القسوة بينما لم يفعل اليسار ذلك.
خرج الإسلاميين من السجون ليكونوا التنظيمات الإرهابية وليعيد الإخوان المسلمين ترتيب أوراقهم مرة أخرى، بتعبير أحدهم: "لقد أخرج السادات عضم التربة من السجون".
المسألة فى نظر الغيطانى لم تكن ثأرًا شخصيًا ولو أنها ثأرًا فالغيطاني لم ينسى يومًا وجه الضابط الذي سب أمه ولكن المسألة كانت أكبر من الثأر الشخصي، كانت قضية وطن، وطن يبحث عن استقلاله، يريد أن يجد لنفسه مكان ومكانة فى هذا العالم، لقد اعتقل واختلفت الطرق بينه وبين النظام ولكنه أبدًا لم يكره زعيم يوليو، الزعيم الذي يحترمه العدو قبل الصديق والذي يؤمن بحق هذا البلد ويحارب من أجله، إن الايمان بالوطن كان الفارق الجوهري.
عاد الغيطاني إلى التاريخ المملوكي الذي يعشقه والذي تأثر به كثيرًا ليكتب الغيطاني أهم روائعة وهي رواية" الزيني بركات" التي عبر من خلالها عن الدولة الأمنية التي كرهها وكره بصاصيها.
لم تكن الرواية تحكي التاريخ المملوكي أو تؤرخ له ولكنها كانت تتحدث عن الحرية، حرية الإنسان، رفض التجسس والبصاصين والسيطرة الأمنية، عبرت الرواية عن الأفكار والمشاعر التي كان تعتمل فى نفس الغيطاني ومما لا شك فيه أن تجربة الاعتقال كانت سببًا هامًا جدًا في كتابة هذا العمل، رغم أنه كتبه بعد ثلاث سنوات من خروجة من الاعتقال.
هنا يمكن أن نعود إلى الشهور التالية لخروجه من المعتقل، خرج الغيطاني ليعمل في الجمعية الاستهلاكية موظفًا بجوار سيدنا الحسين، كان ذلك فى منتصف العام المشئوم ١٩٦٧.
يوم الخامس من يونيو كان الغيطاني عائدًا إلى بيته، الأجواء متوترة والعالم يترقب ما سيحدث فى الشرق الأوسط، سمع الغيطاني أزيز طائرة، صوتها كان واضحًا للغاية، نظر للأعلى فكانت الصدمة. إنها طائرة ميراج تحمل العلم الإسرائيلي، تطير على ارتفاع منخفض للغاية حتى أنها اقتربت من مئذنة مسجد سيدي مرزوق القريب من بيته.
كيف وصلت تلك الطائرة إلى هنا؟ قالوا لنا أن النصر حليفنا لا محالة، أين عبد الناصر؟ أنتظر الغيطاني بالكثير من القلق أربع أيام متواصله، حتى أعلنوا ان الرئيس سيلقي بيانًا هامًا.
لم يكن أحد فى حارة درب الطبلاوي يملك تلفازً سوى الست عطيات جارتهم، نزل بين جموع أهل الحارة ليسمع ما سيقوله عبد الناصر، بالتأكيد سيحل ذلك الأمر و يلقن الصهاينة درسًا قاسيًا، كيف تقترب طائرتهم من مأذنه سيدي مرزوق؟
و لكن الأسد كان جريحًا، صوته منكسر، نظراته الحادة اختفت، صلابة صوته التي أشعرت المصريون بالأمان لسنوات لم تعد هناك.
كان وقع الصدمة قويًا، ولكنه الإيمان بالوطن كان أقوى تطوع الغيطاني بعد النكسة مراسلًا حربيًا بعد أن التحق بالصحافه المصرية لبعض الوقت و هناك على الجبهه ظل سنوات يقابل الموت فى كل لحظه ولم يفقد إيمانه بالوطن، سنوات صعبة قضاها المصريون ببسالة حتى عبروا الهزيمة، ذكر الغيطاني الكثير عن بطولات المصريين فى كتابه الرائع "المصريون والحرب".
كتب عده مؤلفات اخرى عن بطولات الجيش بين الاستنزاف والعبور، سافر إلى دمشق وبغداد بعد وقف إطلاق النار ليرى الجبهة الشرقية عن قرب وكتب عنها أيضًا كتابه "حراس البوابة الشرقية".
تجربة الحرب زادته إيمانًا بالوطن وبقضيتة، رأى الكثير من التضحيات أمامه وأصبح شديد التقدير للقوات المسلحة ودورها الوطني في كل سنواته بعد ذلك.
لم تكن نهاية الحرب نهاية حروبه، فقد ظل الرجل محاربًا حتى النهاية، يحارب بالكلمة مدافعًا عما يعتقد وما يظن أنه الحق، لم يتخلى عن إيمانا بقضايا الوطن..حتة النهاية.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب