كريم علي القاهري
لدراما الصدفة اللطيفة أحببت مشاركتكم إياها!
لم تكن إفتتاحية هذا المقال تلك التي تقرأها الآن عزيزي القارئ؛ إلا أن الصدفة سعت في تبديلها حين جرتني للبحث داخل النوتة الخاصة بالعمل عن ورقة ذائغة مني، فإذا بي أطل على صفحات الهوامش التي أخصصها للهروب ـ ولو لحظات ـ من قيد الوظيفة وضيقها، وتكلفها و"الأونطة" المحيطة بتفاصيلها؛ إلى براح الفن وجمال الكلمة، بتدوين ما نبش في القلب ومس الوجدان. فوجدتني قد بدأت التدوين بالعبارة التالية:
" سلام للفرات الهائمة، ولكل حيٍّ، ولكل من عبر، سلام للمن والسلوى". (جمال الغيطاني).
فاخترت البداية نفسها!
في الذكرى السابعة لرحيل الأديب الكبير جمال الغيطاني أستطيع الزعم أن هذه العبارة هي باب الدخول إلى عالمه، الروائي والإنساني على حد سواء، حيث بالتدقيق في مسيرته تكتشف أنهما واحد. الآن هذه حالة نادرة.
مساحة إعلانية |
ينتمي الغيطاني للزمرة القليلة في المجال العام الذين يحق عليهم وصف الإتساق مع الذات.
والاتساق في العبارة مدهش ومنطقي إذ من يستطيع حمل السلام لكل من عبر غير الرجل الذي مضى في الحياة يحمل العابرين في قلبه، يروي حكاياهم من منطلق الإمتداد الإنساني لا القص المسلي الوعظي عن أناس بعداء ليس منهم في شيء!
نرشح لك: في ذكرى رحيل جمال الغيطاني.. "حكايات الغريب" الذي نعرفه جميعًا
في طريق العابرين بالحياة تجد المشروع الأدبي للغيطاني حاضرًا بقوة يستلهم ممن فات قوة إستشراف لما هو آت، نكاد نجد ذلك في كل أعماله مثالا لا حصرًا "منتهى الطلب إلى تراث العرب" "مقاصد الأسفار" "حكايات هائمة" "القاهرة في ألف عام" "التجليات الأسفار الثلاثة" وغيرهم الكثير الذي يتعقب من خلالهم الفرات الهائمة لعله يرصد برقها وبريقها ونشوتها وملغزها.
امتداد الزمن في أدب الغيطاني سمة مقصودة مبهرة مزجت بين التراثي والمعاصر ببراعة طوعت المعاني لما هو مقصود. حيث صنع تناغم فريد بين التراثي والمعاصر، فتجد مع القراءة الفاحصة المتأنية ما ظاهره تراثي قديم وباطنه مقاصد عصرية حضارية.
بأي معيار نجاح إنساني في الحياة فإن تجربة الغيطاني الإنسانية قبل الأدبية تمثل الطموح والأمل، والنجاح المنطلق من العمل والتطوير وليس فقط الركون إلى الموهبة. كان يملك حقلاً كبيرًا من التجارب الإنسانية المتسلسلة كحبات السبحة، متشابكة دون إنفصال، برهنت نصوصه على ذلك، وتجلت في سردياته وحرفيته للكتابة. إذ كيف نفصل دأبه وإتقانه في تركيب تفاصيل نصوصه التي أسميها "النمنات" عن تعلمه وإشتغاله بصناعة السجاد في طفولته، كأنه حمل دقتها في قلمه ومضى بفن النمنمة يزخرف النصوص وينسج خيوطه في إطارات دقيقة ومنظمة ذات رمزيات بديعة، حتى يصنع ويخطط مدينة بأكملها كما فعل في روايته "خطط الغيطاني".
لم ينفصل الغيطاني عن مراحل حياته بتحولاتها ولم يسمح للذيوع أن ينال من البساطة، أو يمنعه عن التحليق بين الأروقه التاريخية التي تسكنه قبل أن يسكنها، ولعل نشأته في أحياء القاهرة القديمة التاريخية كالجمالية له دور رئيس في ذلك.
ومن مكامن التفرد عند جمال الغيطاني أنه استطاع بسليقة صادقة لا تحتمل التكلف؛ التعبير عن الصوفية الفلسفية وفلسفة التصوف، بعمق وبساطة في نصوصه حيث لا تكاد تجد عمل له يخلو من هذه الصبغة، بالتجاور مع مضيه في الحياة بقلب صوفي يتتبع الفرات الهائمة دون أن يفرط في اعتقاده بالعلم والعملية والتطور والمعاصرة في تناغم كسب تفرده من ندرته. كأنه الدرويش الذي يخطط لهيامه في الأرض.
أهتم الغيطاني اهتماما بالغا ومؤثرا بتاريخ العمارة المصرية فلفت النظر إلى "فلسفة الحجر" وكيف يمكن للجماد أن يعبر عن الهوية ويتحدث بما تحويه الأدمغة من فلسفة ومقاصد. وقد أفاض واستفاض في هذا الصدد خلال برنامجه البديع "تجليات مصرية – قاهرة نجيب محفوظ". يحضرني الآن إحدي حلقاته في مسجد ومدرسة "الظاهر برقوق" بشارع المعز وشرحه السخي الفلسفي المبهر للممر العابر من باب المسجد إلى صحنه الكبير، حيث قال:
" الممر كأنه رحم نولد فيه من عالم إلى عالم، يتميز هنا الممر أنه واضح، هنا نبتدي نشعر بخصوصية هذا المكان مع الزخرفة اللي موجود على الأرض، الأرض عبارة عن مجموعة دوائر، دوائر سوادء ودوائر بيضاء بتدور حول دائرة معينة، الدائرة التي هي الشكل الكامل في الفن الإسلامي، وكأن الإنسان وهو ماشي على الأرض وهو تحت، المسجد يحمله إلى أعلى يحمله من خلال حركة الدائرة وكأنه لا يمشي فوق أرض ولكنه يمشي بين حركة كواكب، إذن إحنا في مواجهة مجرة، شكل من أشكال المجرة، وكأنها منظومة كواكب تمنح المكان رغم ثباته ورغم الحجر ورغم الإرتفاع؛ حركة دائرية قوية جدًا تشعرنا أولاً بإستمرارية الكون أن لا شيء ثابت لا شيء يبقى على حاله بالحركة الدائرية، في نفس الوقت تشعرنا بالسمو لأن إحنا الحقيقة ماشيين في فراغ من السديم اللانهائي تتخلله حركة هذه الكواكب والشموس، الدائرة البيضاء المحاطة بإطار أسود تشبه الشمس وينتظم حولها تلك الكواكب، هذا هو تفسيري للممر الجميل الفريد، الممر مرحلة ومجرد إنتقال نصل بعده إلى بداية الصحن وهنا ننفتح على عالم كامل مكمل".
بالمناسبة أدعو القائمين على التعليم في مصر بدرج برنامج "تجليات مصرية" ضمن المناهج الدراسية ولتكن حصص للدراسة المرئية.
ولعل أبرز ملامح الإدراك والانتباه في تجربة الغيطاني ـ في رأيي ـ هو وعيه الشديد بموهبته التي وقاه من الفخ الذي وقع فيه آخرون من التلاميذ الملتفين حول الأستاذ نجيب محفوظ، حيث انبهروا وسطعهم البهاء المحفوظي للحد الذي همد المشوار الأدبي عند البعض منهم. بينما كان جمال الغيطاني يعي أنه يستطيع وضع لبنة جديدة فريدة ببصمته في بناء الأدب الشامخ، مع الإعتداد بمنارة محفوظ التي تضئ كل كيانه.
يفوت أكتوبر وراء أكتوبر ليفعل القدر مقاديره، أكتوبر ذاته الذي حضره قبل اثنين وأربعين عامًا وسط الدم والنصر كمراسل صحفي يغطي المعركة وينقل تفاصيل أبطالها.. فربما كانت من اللطائف رغم الفقد أن يتوفى الأستاذ الغيطاني في أكتوبر الذي أحبه قدر حبه لمصر.
والأكيد أن الكلام لن ينتهي عن الأديب الكبير جمال الغيطاني كما سيظل أثره باقيًا ننهل منه كلما أردنا الاستزادة من الأدب والفن والجمال.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب