"سألني مصطفى ما هو الأبد؟ رفعت حاجبي مندهشا من سؤاله، كان ينظر لي بجدية فعرفت أنه بالفعل ينتظر الجواب".
سعد البيومي
حقا ما هو الأبد لبشر فانين؟ يستحيل عليهم بلوغ الأبد بأجسامهم فيطاولونه بذكراهم. وماذا لو انحازت الذاكرة للجسد الفاني؟ تنسلخ وتتحور لتحوصل الألم. تطمس الحواس وتعزل الشعور بالخطر؛ لتضمن للجسد البقاء ليوم إضافي ثم يوم آخر في حركة دائبة تشبه إلى حد كبير "الجري في المكان".
عمل فريد من نوعه قادر على استفزاز حالة من الوعي أزعم أنها جديرة بالتحليل. أحب تلك الأعمال التي تدفعك للقراءة داخل نفسك وأنت تقرأها. تفرغ منها ولا تفرغ منك حتى تستوضح موقفك. أما على مستوى الكتابة فأعترف بأني مازلت أسيرة صور بعينها -ربما ليست الاقتباسات الأشهر- صوت المترو مثلا؛ ما هذا الجمال؟
وبوجه عام حتى لا أستطرد في حديث أحبه، هي تجربة حسية بامتياز ليس فقط لأن نورا أفردت فصلا لكل بطل وحسا لكل فصل، بل لأن الحواس في قراءتي للرواية أبطال فاعلون؛ ثائرون وانتقائيون، مغيَّبون ومحتجُّون. الحواس في الرواية هم أبطال المفارقة الأخفى بين غريزة البقاء وخلود الذكرى.. حيث البقاء الرخيص لا يعني الخلود ولا يقاربه. والذاكرة فيه ليست سوى قطة تبتلع صغارها لتحميهم.
في التجارب الضاغطة المؤلمة قد تبتلع الذاكرة المشاعر، تهضمها بسرعة إلى أفكار صلبة. أما في تجربة بحجم الثورة وما تلاها حين يعجز العقل عن معالجة الموقف فإن الذاكرة لن تتوانى عن تشويش الحواس أو تعطيلها بالكلية. المهم أن يبقى الجسد حيا وعاملا بأقصى كفاءة متاحة وأقل جهد ممكن.
أو كما قالت ياسمين في مذاق الذكرى:
"الذكرى خادعة بآلاف النكهات، يسهل إحلال طعم محل آخر، مثلما يسهل إحلال حب مكان آخر، وتغيير حب بكره، وكره بشوق، وشوق ببغض، وبغض بشفقة. طعم لا يمكن الإمساك به، لأنكِ في نهاية العمر، وحدكِ في مواجهة الأشباح والوحدة، ستكتشفين أنكِ نسيتِ كل شيء".
البطل السادس.. أنت
وماذا عنك أنت؟ هل نسيت كل شيء؟
منذ تقذفك الرواية بجوار طاولة المشرحة تصحو هائما. تتبع سعدا الجائل في حياته "السابقة" شرقا وغربا وتتخبط. تماما كما تخبَّط أبطال الرواية الخمسة بين المضي قدما نحو أبد مبهم أو "البقاء" في المكان. تتخبط كبطل سادس وكلما تخبطت ازددت انغماسا. هذا عمل لا تتوحد فيه مع شخوصه، هم يشبهونك ولكنهم ليسوا أنت. حواسهم في مقابل حواسك، ألوان سعد في مقابل ألوانك. تنحبس أنفاسك تلقائيا وأنت توغل برفق في مشاهد قررت أن تنساها؛ السيارة البيضاء، والشاب الواقف أمام المدرعة، والأعداد الغفيرة أمام المشرحة. ومشاهد لم تفهمها وقتها استدعاها أبطال الرواية من خلفية ذاكرتك وتطوعوا بشرحها لك. ليس عجبا إذن أن يكون انطباع العديد من القراء أنهم كانوا يلهثون خلف سعد البيومي وجماعته!
الحلم.. وكر غامض للحواس أم ملاذها الآمن؟
أول من لفت نظري لدور الحلم في الرواية هو العزيزة ياسمين. حين ذكرَتْ أنها تستطيع التذوق في أحلامها راجعتُ أحلامي. كل أحلامي الجيدة والسيئة خالية من النكهة. هل يتذوق الناس في مناماتهم؟ بحثت قليلا لأجده ممكنا في 30-40% من النساء، كما وُجد في الرجال بنسبة أقل.
الحلم بمعنييه حاضر بقوة في النص، سواء أكان رؤيا المنام أم هدفا مستقبليا. بقعة نشطة للحواس لا سلطان للوعي عليها. غير مرتهنة بموقعك الحالي ولا تعوقها إمكانياتك الجسدية والمادية. الرواية ذاتها حلم؛ هكذا افتتحت نانا فصلها الخاص بجملة موجزة بديعة: "حلمت بأنك تكتبين رواية". وكتبت نانا الرواية وأطلقت أبطالها يبحثون عن حواسهم حيث فقدوها أول مرة، بما فيهم سعد وإن اختلفت سنوات جريه عن سنوات جريهم، وكونه يبحث في عمق الماء فيما يبحثون هم حول كعكة حجرية.
توظيف الحلم في الرواية رائع، هو عند سعد أمل جميل بائس حين يتعلق بدخول كلية الفنون الجميلة، وقهري حين يتعلق بإقامة معرض لتخليد حادث العبارة، أو حين يحلم بأنه مات قبل أن يموت.
هو قهري كذلك عند ياسمين السيد. طبيبة شرعية يؤثر الفورمالين في قدرتها على التذوق لتصبح المذاقات والأموات هم أبطال أحلامها. ويصبح الحلم في حالتها هو الحد الفاصل بين الحياة والموت.
وهو عند مصطفى ونانا وسيلة للخلاص، يوظفانه بوعي لاستعادة السيطرة. أحلام نانا تؤولها بنفسها باقتدار، أما مصطفى المحروم من الحديث عن نفسه فيقول راويه العليم:
"أحيانا لا يكون هناك صوت، مجرد غمغمات خافتة قد يكون هو مصدرها. ثمة شيء غير حقيقي في كل هذا، مشروعه كان فاصلا بين الواقع والحلم، المستنقعات بالنسبة له كانت حلما، لا يعرف سبب غرامه بها..."
ويبقى الفائز معنا بجائزة الحلم الأكثر شاعرية هو... (دقات طبول هنا تناسب دخولا مسرحيا) : يحيى الصاوي. على عكس ما توقعت شخصيا، إذ ظننت فصله خلوا من الأحلام مع وجود المخدرات كبديل لتحقيق حالة اللا وعي المطلوبة لتمكين الحواس، إلا أني اكتشفت في القراءة الثانية أنني فوتُّ حلما. يقول يحيى: "قلت ربما يكون كل هذا محض حلم، أن أرى رجلا يموت ثم يتضح أنني أعرفه، يتحول من غريب إلى شخص حقيقي، صديق صديقتك، رجل يحمل اسما، وله زوجة وأطفال وأم وأب، تحول الرجل الذي مات ليلة أمس إلى سعد البيومي". صورة شديدة العذوبة والرهافة حولت سعد البيومي في ومضة إلى حلم مفجع تم تفسيره، بكل ما يحمله ذلك الرمز من معنى.
القليل عن ديناميكا الحكاية
من ديناميكية الاسم إلى ديناميكا العلاقات بين الشخصيات حيث الجميع صديق لصديق، انتهاءً بكشف نانا عن بعض أوراق كتابتها، وإفصاحها عن ترددها فيمن يتحدث أولا سعد أم نانا. بذلك تجمعت للنص من أنواع الحركات:
• الحركة البندولية (الجري).
• الإزاحة الخطية (التدافع بين الشخصيات).
• الدورانية (بإعادة قراءة فصل سعد -المبهم للوهلة الأولى- في مقابل فصل نانا الكاشف).
وأعتقد أن الرواية ستنال في المستقبل دراسات وافية لهذا الجانب.
ثانيا وما دمنا نتعامل مع الحواس كأبطال هذه القراءة، فثمة حركة ديناميكية ولّدتها:
سيطرة الذاكرة/ تعطيل الحواس/ فقد الذاكرة.
ثم: تمكين الحواس/ استعادة الذاكرة.
تعدد الرواة أيضا خلق لونا جديدا من الحركة، لنقترض لها مسرح يحيى، ولندع جميع الرواة إلى المنصة. يحيى في جانب مع طبيبه يجلسان إلى مكتب. وياسمين في أقصى الجانب الآخر فوق سرير تحمل قلما ودفترا. وسعد في الصدر يواجه الجمهور، إلى جواره مصطفى ينظر نحو سعد مرة ونحو نانا مرة ولا يلتفت للجمهور مطلقا. ونانا في الخلفية تواجه مرآة تعكس حركة باقي الشخصيات. هكذا تصورتُ رواة العمل. شعرتُ بوحدة نانا وهي تخاطب نفسها، وحيرة مصطفى مع سمعه الانتقائي. حتى ضمير المتكلم ليس هو نفسه وإن اشترك فيه سعد وياسمين في مذكراتها ويحيى في حواره مع طبيبه. سعد في الرواية هو سعد في محاضراته العملية، يشرح بإخلاص و"يمسك بشاسيه الخشب ويهبط به على مقعد أو ترابيزة ليحدث صوت "الطاخ" المكتوم، ويشجع الطلبة على القيام وفعل المثل". هكذا رأيت سعد وهكذا قرأت روايته.
بقي أن أشكر لنورا ناجي توثيقها لهذه السنوات العصية على التأريخ. دام القلم الواعي والإحساس الثري.
تعليقات
إرسال تعليق
شاركنا بتعليقك أو أرسل رسالة للكاتب